تاريــــــخ الصهيونيــة: مقدمــــة


تاريــــــخ الصهيونيــة: مقدمــــة
History of Zionism: Introduchion
يرى الصهاينة والمعادون لليهود أن الحركة الصهيونية بدأت مع التاريـخ اليهـودي نفسه وأنها لازمت اليهود عَبْر تاريخهم بعد تحطيم الهـيكل، وذلك لسـببين: واحـد سـلبي والآخــر إيجابي. أما السلبي، فهو ظاهرة العداء لليهود والمذابح والاضطهاد اللذين تعرَّض لهما اليهود في كل مكان وكل زمان، وهي ظاهرة حتمية أزلية من المنظور الصهيوني. أما السبب الإيجابي، فهو الرغبة العارمة لدى اليهودي في العودة إلى فلسطين (أرض الوطن ـ أرض الأجداد والأسلاف ـ الوطن القومي ـ أرض الميعاد) حيث إنه يشعر بالاغتراب العميق في أرض المنفى (الأمر الذي أدَّى إلى إفساد الشخصية اليهودية). وتعود هذه الرغبة إلى أن اليهود، من منظور صهيوني، يشكلون قومية رغم أنهم لا يوجدون في مكان واحد ولا يتحدثون لغة واحدة ولا يتسمون بسمات عرْقية أو نفسية واحدة ولا يخضعون لظروف اقتصادية واحدة. وقد بدأت المسألة اليهودية يوم أن ترك اليهود وطنهم قسراً. والصهيونية هي التي ستضع نهاية لهذا الوضع، وهي ستفعل ذلك عن طريقة آلية جديدة، فهي ترفض سلبية اليهودية الحاخامية وخنوع الشخصية اليهودية، وبالتالي سوف تحرِّض اليهود على العودة بأنفسهم إلى فلسطين ليحققوا تطلُّعهم القومي وستقوم بتنظيمهم لتحقيق هذا الهدف. ولكل هذا، تنظر الصهيونية إلى نفسها باعتبارها التعبير الحقيقي والوحيد عن مسار التاريخ اليهودي.

لكن هذه الرؤية الصهيونية لتاريخ الصهيونية ليس ذات مقدرة تفسيرية عالية إذ أنها تفشل في أن تفسر سبب ظهور الصهيونية بين اليهود في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر ولم تظهر قبل ذلك التاريخ في مكان آخر. ولو كان سبب ظهور الصهيونية هو عداء الأغيار لليهود ورغبتهم العارمة في العودة، لكان الأولى أن تظهر الصهيونية إبان حروب الفرنجة على سبيل المثال. وكيف نفسر ظهور الفكر الصهيوني في الأوساط الاستعمارية الغربية وهم لا يدينون باليهودية ولا يوجد عندهم أي تطلُّع للعودة ولم يتعرضوا لاضطهاد الأغيار؟

وفي تصوُّرنا أن الصهيونية تعود إلى مركب من الأسباب التاريخية والحضارية والفكرية (انظر: «السياق التاريخي والاقتصادي والحضاري للصهيونية» ـ «المصادر العلمانية للفكر الصهيوني») لعل أهمها طراً هو ظهور الإمبريالية كرؤية معرفية وحركة سياسية اكتسحت العالم بأسره وحولته نظرياً وفعلياً إلى مادة لا قداسة لها تُوظَّف في خدمة الشعوب الغربية. وقد واكب هذا ظهور معاداة اليهود الحديثة التي ارتبطت تماماً بتصاعُد معدلات العلمانية الشاملة والعنصرية. ومن هذه النقطة سنطرح تعريفاً للصهيونية، وسوف يتضمن هذا التعريف الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي تنظر إلى اليهود من الخارج، وسنضع بين قوسين الديباجات الصهيونية اليهودية التي هوَّدت الصيغة ومن ثم يسَّرت على المادة البشرية المستهدفة استبطانها.

ويمكن تعريف الصهيونية بشكل مبدئي بأنها حركة داخل التشكيل السياسي والحضاري الغربي تنظر إلى اليهود من الخارج باعتبارهم فائضاً بشرياً، فهم بقايا الجماعات الوظيفية اليهودية التي فَقَدت وظيفتها ونفعها وتحوَّلت إلى شعب عضوي منبوذ وفائض بشري لا نفع له (ويتم تهويد هذا حيث ينظر اليهود إلى أنفسهم من الداخل باعتبارهم الشعب المختار أو الشعب العضوي أو الشعب الذي فقد وطنه ولذا فهو لا يمكنه تحقيق رسالته). هذا الفائض (الشعب) يجب أن يُهجَّر (يعود) من أوطانهم (أرض المنفى) إلى خارج أوربا في أية بقعة في العالم. ثم تحدَّدت البقعة بفلسطين (صهيون أو إرتس يسرائيل أو أرض إسرائيل في المصطلح الصهيوني). وسيتم نقلهم حتى يتم توظيفهم وتحويلهم إلى عنصر استيطاني قتالي يقوم على خدمة المصالح الغربية (واحة الديموقراطية الغربية ـ نور الأمم ـ مركز الثقافة اليهودية ـ وطن قومي يهودي ـ مكان تحقق فيه رسالة اليهود المقدَّسة) نظير أن يضمن الغرب بقاءه واستمراره داخل إطار الدولة الوظيفية.

وحركة النقل السكاني هذه تتضمن حركة أخرى لا تذكرها الأدبيات الصهيونية إلا نادراً. فالعنصر السكاني الجديد لن يقوم باستبعاد السكان الأصليين أو استغلالهم عن طريق سرقة أرضهم وتحويلهم إلى عمالة رخيصة وإنما سيحل محلهم. فالمستوطن الصهيوني يريد الأرض خالية من السكان، وبالتالي لابد من التخلص منهم إما عن طريق الإبادة (على الطريقة الأمريكية)، وهذا أمر أصبح مستحيلاً، أو عن طريق التهجير، ومن ثم فإن المشروع الصهيوني ليس مشروعاً استعمارياً غربياً وحسب، وليس مشروعاً استعمارياً استيطانياً وحسب، وإنما هو مشروع استعماري غربي، استيطاني إحلالي، له ديباجات يهودية فاقعة.

ورغم هذه الديباجات، ومع أن هناك بعض ملامح خصوصية بل متفردة في الصهيونية، فإنها في تصوُّرنا ليست حركة عالمية، فهي ليست ثمرة تفاعل حركيات عالمية على مستوى التاريخ العالمي وإنما ثمرة قوى حضارية وسياسية واجتماعية داخل التشكيل الحضاري الغربي. بل نذهب إلى أن الصهيونية إشكالية كامنة داخل الحضارة الغربية ولا يمكن فهمها بمعزل عن سياق هذه الحضارة وتياراتها الفكرية والقوى السياسية والاجتماعية التي تعتمل فيها والإشكاليات الكبرى التي تواجهها. ولعل معظم الناس يسمونها «صهيونية عالمية» لأنها أطلقت على نفسها هذا الاسم، ولأنه حدث ترادف كامل في عقول معظم الناس بين ما هو غربي وما هو عالمي.

ولكل هذا، فإن تاريخ الصهيونية هو بالدرجة الأولى جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية، ولا يمكن فهمه خارج حركيات هذا التاريخ. وسنستخدم الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كوحدة تحليلية تبسيطية أساسية نقدم من خلالها تاريخ الصهيونية. ولنا أن نلاحظ أن التاريخ الذي نقدمه من خلال الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة مرتبط تماماً بتاريخ تحوُّل الجماعات اليهودية في الغرب إلى جماعات وظيفية وبفقدانها هذا الدور في عصر النهضة. وهو الأمر الذي أدَّى إلى تصاعد حمى معاداة اليهود وتزايد وتيرة الدعوة الصهيونية بين غير اليهود ثم بين اليهود، فهو إطار تاريخي عام ينتظم تاريخ الغرب وتاريخ الصهيونية بين غير اليهود واليهود وتاريخ معاداة اليهود. ونحن نصر دائماً على ما نسميه «نظرية الصهيونيتين»، أي أن هناك صهيونيتين، واحدة توطينية وأخرى استيطانية، لكلٍّ رؤيتها وتاريخها ومصالحها وجماهيرها، ولكنهما تحالفا بعد صدور وعد بلفور. ولكن، رغم هذا التحالف، فإن كل صهيونية لا تزال محتفظة بتوجُّهها ومقاصدها وجماهيرها.

وفي مداخل هذا الباب سنقوم أولاً بتقديم السياق التاريخ والاقتصادي والحضاري للصهيونية، ثم نقدم تاريخاً موجزاً للفكر والحركة الصهيونية. وفي بقية مداخل الباب سنقدم تواريخ الحركة الصهيونية في مختلف بلاد العالم.

23 تعليق (+add yours?)

  1. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:18:21

    الســـياق التاريخي والاقتصــادي والحضــاري للصهيونيـة
    Historical, Economic, and Cultural Contexts of Zionism
    ثمة مركب من الأسباب الحضارية والاقتصادية والتاريخية أدَّى إلى ظهور الصهيونية (بين غير اليهود واليهود) سنحاول أن نوجزها في هذا المدخل، وبإمكان القارئ العودة للمداخل الخاصة بكل عنصر. ويُلاحَظ أننا استبعدنا مفهوم “التسامح مع اليهود” (انظر: «التسامح مع اليهود») لأنه لا يصلح كمفهوم تفسيري، كما أن مضمونه السياسي والتاريخي يختلف من مرحلة لأخرى، كما أن ما يبدو تسامحاً قد يكون بغضاً، وما يبدو وكأنه بُغض قد يكون تسامحاً. ومن المعروف أن بلفور الذي أصدر الوعد الشهير كان يكن بُغضاً عميقاً لليهود، على حين أننا نجد أن سير إدوين مونتاجو الذي وقف ضده وضد المشروع الصهيوني برمته كان يهودياً يكن الاحترام لبني ملته. وإذا كانت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تتضمن الإيمان بضرورة نقل الشعب العضوي المنبوذ النافع ثم توظيفه لصالح الحضارة الغربية، فهل هذا يعبِّر عن البُغض أو يدل على التسامح والمحبة؟

    كما يجب ملاحظة أن تاريخ الصهيونية تاريخ مركب لأقصى حد ويتضمن ساحات ثلاثاً هي:

    أ ) أوربا: باعتبارها مصدر المادة البشرية والقوى الإمبريالية الراعية.

    ب) فلسطين: باعتبارها المكان الذي تُنقَل إليه المادة البشرية.

    جـ) العالم: باعتبار أن أعضاء الجماعات اليهودية يوجدون في العالم بأسره.

    ورغم تعدُّد الساحات، إلا أن سياق الحركة والفكر الصهيونيين يظل سياقاً غربياً تماماً، إذ أن حركيات الصهيونية مرتبطة تماماً بالتاريخ العام للغرب،،وخصوصاً أن الغالبية الساحقة من يهود العالم موجودة في الغرب. فتاريخ الصهيونية جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية وما صاحبه من ظواهر مرضية أو صحية (مثل معاداة اليهود وتصاعُد معدلات العلمنة والثورة الصناعية)، وليس ذا علاقة كبيرة بالتوراة والتلمود أو «حب صهيون» أو حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». ويمكننا أن نُورد الأسباب التالية لظهور الصهيونية:

    1 ـ فشل المسيحية الغربية في التوصل إلى رؤية واضحة لوضع الأقليات على وجه العموم، ورؤيتها لليهود على وجه الخصوص؛ باعتبارهم قتلة المسيح ثم الشعب الشاهد (في الرؤية الكاثوليكيـة) وأداة الخلاص (في الرؤية البروتستانتية) ـ (انظر الباب المعنون «الإقطاع الغربي»).

    2 ـ انتشار الرؤية الألفية الاسترجاعية والتفسيرات الحرفية للعهد القديم التي تعبِّر عن تزايد معدلات العلمنة (انظر: «الأحلام والعقائد الألفية» ـ «العقيدة الاسترجاعية»).

    3 ـ وضع اليهود كجماعة وظيفية داخل المجتمع الغربي (كأقنان بلاط ـ يهود بلاط ـ يهود أرندا ـ صغار تجار ومرابين) وهو وضع كان مستقراً إلى حدٍّ ما إلى أن ظهرت البورجوازيات المحلية والدولة القومية العلمانية (المطلقة والمركزية) فاهتز وضعهم وكان عليهم البحث عن وظيفة جديدة (انظر الباب المعنون «الجماعات اليهودية الوظيفية»).

    4 ـ مناقشة قضية إعتاق اليهود في إطار فكرة المنفعة، ومدى نفع اليهود للمجتمعات الغربية (انظر: «نفع اليهود»).

    5 ـ ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي ترى العالم بأسره مادة نافعة تُوظَّف وتُحوسَل (انظر: «الرؤية المعرفية الإمبريالية والصهيونية»).

    6 ـ تَزايُد عدد أعضاء الجماعات اليهودية زيادة ملحوظة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وخصوصاًً في شرق أوربا، ابتداءً من القرن التاسع عشر (انظر الباب المعنون «إشكالية التعداد»).

    7 ـ وجود اليهود في مناطق حدودية مُتنازَع عليها بين الدول الغربية (انظر: «الحدودية» ).

    8 ـ تعثُّر التحديث في شرق أوربا الأمر الذي دفع بالألوف إلى أوربا الغربية، وهو ما ولَّد الفزع في قلوب حكومات غرب أوربا وأعضاء الجماعات اليهودية فيها. ونحن نذهب إلى أن عام 1882 (تاريخ صدور قوانين مايو التي كرَّست تعثُّر التحديث في الإمبراطورية القيصرية الروسية) هو تاريخ ظهور الصهيونية بين اليهود (انظر: «المسألة اليهودية»).

    9 ـ عزلة يهود اليديشية ثقافياً وبخاصة في منطقة الاستيطان وفشل قطاعات كبيرة منهم في التكيف مع الأوضاع الجديدة.

    10 ـ أزمة اليهودية الحاخامية وظهور حركات الإصلاح والدمج (انظر: «أزمة اليهودية»).

    11 ـ سقوط القيادات التقليدية للجماعات اليهودية (الحاخامات وأثرياء اليهود) وظهور المثقف اليهودي الذي فقد هويته اليهودية ولم يكتسب هوية غربية جديدة، فهو يهودي غير يهودي يصر عالم الأغيار على تصنيفه يهودياً، ومثل هؤلاء المثقفين هم الذين أخذوا بالتدريج يحلون محل القيادات التقليدية (انظر: «قيادات الجماعات اليهودية»).

    12 ـ ظهور الفكر العنصري وهيمنته على قطاعات كبيرة في المجتمعات الغربية (انظر الباب المعنون «العنصرية الصهيونية»).

    13 ـ ولكن أهم العناصر على الإطلاق هو ظهور الإمبريالية الغربية كقوة عسكرية وسياسية عالمية (بمعنى أن ساحتها العالم بأسره) تُجيِّش الجيوش وتنقل السكان وتقسم العالم. وقد وجدت الإمبريالية الغربية في أعضاء الجماعات اليهودية ضالتها باعتبارهم مادة استيطانية تسبب مشاكل أمنية إن بقيت داخل العالم الغربي، ولكنها تستطيع أن تزيد نفوذه إن نُقلت خارجه وتحولت إلى مادة قتالية تحوسل لحساب الغرب داخل نطاق الدولة الوظيفية. ووجدت القيادات الصهيونية بدورها أن ثمة إمكانية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ من خلال تَقبُّل الوظيفة القتالية المطروحة.

    ويجب ملاحظة أن الصهيونية التوطينية ظهرت في غرب أوربا حيث كان عدد اليهود صغيراً وحيث حقق أعضاء الجماعات اليهودية قدراً عالياً من الاندماج والعلمنة في مجتمعات كانت تحل مشاكلها الاجتماعية عن طريق الاستعمار وغير ذلك من الآليات. أما الصهيونية الاستيطانية فقد ظهرت أساساً في شرق أوربا حيث توجد كثافة سكانية يهودية ضخمة، وحيث تفاقمت القضايا الاجتماعية دون حل حتى عام 1917.

    ثم ظهرت الصهيونية النفعية (صهيونية المرتزقة) بعد ذلك بين يهود الدول العربية منذ عام 1948، وبين يهود الاتحاد السوفيتي بعد عام 1917، وتصاعدت وتيرتها بعد عام 1970. والسياق التاريخي للصهيونية النفعية يتفاوت من بلد لآخر، ومن جماعة يهودية إلى أخرى.

    رد

  2. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:20:07

    المؤتمرات الصهيونية
    Zionist Congresses
    المؤتمر الصهيوني هو الهيئة العليا للمنظمة الصهيونية العالمية، وقراراته هي التي ترسم الخطوط العامة لسياسات المنظمة (انظر: «الهيكل التنظيمي للمنظمة الصهيونية العالمية»). ولذا، فإن رَصْد ما يحدث داخل هذه المؤتمرات، وتعاقُبها، يكون في واقع الأمر بمنزلة رَصْد لبعض أهم جوانب تاريخ الحركة الصهيونية.

    وفيما يلي عرض موجز للمؤتمرات الصهيونية التي انعقدت حتى وقت صدور الموسوعة (1997):

    المؤتمر الأول:

    بازل، أغسطس 1897. وكان مزمعاً عقده في ميونيخ، بيد أن المعارضة الشديدة من قبَل التجمُّع اليهودي هناك والحاخامية في ميونيخ حالت دون ذلك. وقد عُقد في أغسطس 1897 برئاسة تيودور هرتزل الذي حدد في خطاب الافتتاح أن هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود، وأكد أن المسألة اليهودية لا يمكن حلها من خلال التوطن البطيء أو التسلل بدون مفاوضات سياسية أو ضمانات دولية أو اعتراف قانوني بالمشروع الاستيطاني من قبَل الدول الكبرى. وقد حدد المؤتمر ثلاثة أساليب مترابطة لتحقيق الهدف الصهيوني، وهي: تنمية استيطان فلسطين بالعمال الزراعيين، وتقوية وتنمية الوعي القومي اليهودي والثقافة اليهودية، ثم أخيراً اتخاذ إجراءات تمهيدية للحصول على الموافقة الدولية على تنفيذ المشروع الصهيوني. والأساليب الثلاثة تعكس مضمون التـيارات الصهـيونية الثلاثة: العمـلية (التسللية)، والثقافية (الإثنية)، والسياسية (الدبلوماسية الاستعمارية). وقد تعرَّض المؤتمر بالدراسة لأوضاع اليهود الذين كانوا قد شرعوا في الهجرة الاستيطانية التسللية إلى فلسطين منذ 1882، واقترح شابيرا إنشاء صندوق لشراء الأرض الفلسطينية لتحقيق الاستيطان اليهودي، وهو الاقتراح الذي تجسَّد بعدئذ فيما يُسمَّى الصندوق القومي اليهودي. وقد اعترض هرتزل على هذا الاقتراح رغم أنه لم ينكر الحاجة إلى مثل هذا المشروع، ويبدو أن تحفظاته كانت تنْصبُّ على توقيت المشروع وليس جوهره. وفي هذا المؤتمر أيضاً، تم وضع مسودة البرنامج الصهيوني الذي عُرف ببرنامج بازل، كما ارتفعت الدعوة إلى إحياء اللغة العبرية وتكثيف دراستها بين اليهود والمستوطنين. وشهد المؤتمر ظهور الأشكال الجنينية للتيار الذي عُرف بعد ذلك باسم «الصهيونية العملية» التي قادها زعماء أحباء صهيون واصطدمت في كثير من الجوانب المرحلية بتيار هرتزل الذي يُطلَق عليه اسم «الصهيونية السياسية»؟ وكانت اللغة المستخدمة في المؤتمر هي الألمانية واليديشية.

    المؤتمر الثاني:

    بازل، أغسطس 1898. عُقد برئاسة هرتزل الذي ركَّز على ضرورة تنمية النزعة الصهيونية لدى اليهود، وذلك بعد أن أعلن معظم قيادات الجماعات اليهودية في أوربا الغربية عن معارضتهم للحل الصهيوني للمسألة اليهودية. وكانت أهم أساليب القيادة الصهيونية لمواجهة هذه المعارضة، هو التركيز على ظاهرة معاداة اليهود، والزعم بأنها خصيصة لصيقة بكل أشكال المجتمعات التي يتواجد فيها اليهود كأقلية. وقد ألقى ماكس نوردو تقريراً أمام المؤتمر عن مسألة دريفوس باعتبارها نموذجاً لظاهرة كراهية اليهود وتعرُّضهم الدائم للاضطهاد حتى في أوربا الغربية وفي ظل النظـم الليبرالية بعـد انهيار أسـوار الجيتو. كما لجأت قيادة المؤتمر إلى تنمية روح التعصب الجماعي والتضامن مع المستوطنين اليهود في فلسطين بالمبالغة في تصوير سوء أحوالهم، وهو ما بدا واضحاً في تقرير موتزكين الذي كان قد أُوفد إلى فلسطين لاستقصاء أحوال مستوطنيها من اليهود، فأشار في تقريره إلى أنهم يواجهون ظروفاً شديدة الصعوبة تستدعي المساعدة من يهود العالم كافة لضمان استمرار الاستيطان اليهودي في فلسطين. ولهذا الغرض، فقد تم انتخاب لجنة خاصة للإشراف على تأسيس مصرف يهودي لتمويل مشاريع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

    المؤتمر الثالث:

    بازل، أغسطس 1899. عُقد برئاسة هرتزل الذي عرض تقريراً عن نتائج اتصالاته مع القيصر الألماني في إستنبول وفلسطين، وهي الاتصالات التي عرض فيها هرتزل خدمات الحركة الصهيونية الاقتصادية والسياسية على الإمبريالية الألمانية الصاعدة في ذلك الوقت مقابل أن يتبنى الإمبراطور المشروع الصهيوني. وطالب المؤتمر بتأسيس المصرف اليهودي تحت اسم «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار»، وذلك لتمويل الأنشطة الاستيطانية الصهيونية وتوفير الدعم المالي للحركة الصهيونية. كما ناقش المؤتمر قضية النشاط الثقافي اليهودي في العالم، كما تناول المؤتمر مسألة إعادة بناء الجهاز الإداري الدائم للحركة الصهيونية ليحل محلها الجهاز المؤقت.

    المؤتمر الرابع:

    لندن، أغسطس 1900. عُقد برئاسة هرتزل، وجرى اختيار العاصمة البريطانية مقراً لانعقاد المؤتمر نظراً لإدراك قادة الحركة الصهيونية في ذلك الوقت تعاظُم مصالح بريطانيا في المنطقة، ومن ثم فقد استهدفوا الحصول على تأييد بريطانيا لأهداف الصهيونية، وتعريف الرأي العام البريطاني بأهداف حركتهم. وبالفعل، طُرحت مسألة بث الدعاية الصهيونية كإحدى المسائل الأساسية في جدول أعمال المؤتمر. وشهد هذا المؤتمر ـ الذي حضره ما يزيد على 400 مندوب ـ اشتداد حدة النزاع بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية، وذلك عندما طُرحت المسائل الثقافية والروحية للمناقشة، إذ طالب بعض الحاخامات بألا تتعرض المنظمة الصهيونية للخوض في القضايا الدينية والثقافية اليهودية، وأن تقصر عملها على النشاط السياسي وخدمة الاستيطان اليهودي في فلسطين. وإزاء ذلك، دعا هرتزل الجميع إلى نبذ الخلافات جانباً والتركيز على الأهداف المشتركة. وخلال المؤتمر، تم وَضْع مخطط المشروع المتعلق بإنشاء الصندوق القومي اليهودي. وقد وُوجه المؤتمر بمعارضة أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا، وتجاهله أثرياء اليهود، ولذا توجَّه المؤتمر لغير اليهود ونجح في اجتذاب اهتمامهم إلى حدٍّ ما، وخصوصاً أن الصهيونية كانت تطرح حلاًّ لمشكلة المهاجرين من يهود اليديشية الذين كانوا يثيرون القلق في أوساط النخبة الحاكمة الإنجليزية وأثرياء اليهود. ولذا، حرص هرتزل على أن يدلي بشهادته أمام اللجان المختصة بمناقشة موضوع الهجرة اليهودية إلى إنجلترا.

    رد

  3. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:20:39

    برنامج القدس 5728 (1968)
    Jerusalem Program
    أقر المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرون، المنعقد في القدس عام 1951، “برنامج القدس” والذي تُعَدُّ الموافقة عليه شرطاً أساسياً لعضوية المنظمة الصهيونية.

    ويحدد البرنامج الأهداف الرئيسية للحركة الصهيونية معتبراً أن “تجميع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من جميع البلدان” هو هدف الصهيونية الأول.

    وقد أقر المؤتمر الصهيوني السابع والعشرون، الذي عُقد في القدس عام 1968، إضافة الفقرة التالية إلى “برنامج القدس” الجديد الذي سُمِّي “برنامج القدس 5728 (1968)”، وهي تُوضِّح أهداف الصهيونية بالتفصيل كما يلي: وحدة الشعب اليهودي ومركزية إسرائيل في حياته؛ تجميع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من مختلف البلدان؛ تدعيم دولة إسرائيل التي قامت على أساس الرؤيا النبوئية للعدل والسلام؛ الحفاظ على هوية الشعب اليهودي من خلال تعزيز التربية اليهودية والعبرية والقيم الثقافية والروحية اليهودية، وحماية الحقوق اليهودية أينما كانت.

    وصياغة برنامج القدس صياغة مراوغة إلى أقصى حد (انظر: «الخطـاب الصهيوني المـراوغ») وهو ما جعـل عملية تبنيه مسألة سهلة جداً.

    ورغم الموافقة الأولية على «برنامج القدس» من جانب الاتحادات الصهيونية والتجمعات اليهودية المختلفة، باعتباره شرطاً لانضمامها إلى المنظمة الصهيونية، فقد أثار منذ إقراره (وحتى الآن) نقاشـات وخـلافات حادة بين الاتجاهات المتعددة في الحركة الصهيونية، وخصوصاً فيما يتعلق بتأكيده محورية الهجرة إلى إسرائيل كأساس لتحقيق الصهيونية، وبالتالي إعطاء إسرائيل دور المركز بالنسبة ليهود العالم، وما يترتب على ذلك من اعتبار من لا يعتزم الهجرة إلى إسرائيل غير صهيوني.

    وتمثل التجمعات الصهيونية خارج إسرائيل عموماً، والتجمعات الصهيونية في أمريكا بشكل خاص، المعارضة الأساسية لهذه النصوص التي تؤدي ـ في نظرهم ـ إلى زيادة ثقل دولة إسرائيل داخل الحركة الصهيونية مع تقليص دور التجمعات في الخارج وتهميشها. وترفض المنظمات المؤيدة لهذا الاتجاه اعتبار اليهود «أمة» مرتبطة بوطن وتكتفي بالحديث عن «شعب يهودي» دون الارتباط بوطن واحد. كما تطالب بتأكيد المشاركة بين الدولة ويهود «الشتات» في الخارج على قدم المساواة، وبالنظر إلى الهجرة نحو إسرائيل لا كأساس لتحقيق الصهيونية وإنما كمثل أعلى.

    رد

  4. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:20:58

    هاتيكفاه
    Hatikva
    «هاتيكفاه» كلمة عبرية معناها «الأمل»، وهو اسم نشيد الحركة الصهيونية الذي أصبح النشيد القومي لإسرائيل، وفيما يلي مقطوعتان من النشيد:

    ما دامت روح اليهودي

    في أعماق القلب تتوق.

    ونحو الشرق

    تتطلع العيون لصهيون.

    أملنا لم يُفقَد أبداً.

    أمل ألفي عام:

    أن نصبح شعباً حراً في وطننا.

    أرض صهيون وأورشليم.

    والمقطوعة الثانية في النشيد لازمةٌ تتكرر.

    والنشيد يشبه من بعض الوجوه الخطاب الصهيوني المراوغ؛ فهو نشيد مليء بالفراغات، يتحدث عن التطلع إلى صهيون، وعن أمل لم يُفقَد بعد، وعن شعب واحد، وعن أرض صهيون، ولكنه يلتزم الصمت تجاه غالبية اليهود الذين يرفضون أن يكونوا جزءاً من الشعب اليهودي وإن قبلوا ذلك اسماً (فهم يرفضون الهجرة). وبطبيعة الحال، يلتزم النشيد الصمت تجاه آلية العودة إلى الأرض وآلية التخلص من أهلها.

    ورغم حديث النشيد عن تطلعات هذا الشعب الواحد، فإن ملابسات تأليفه وتلحينه تبيِّن عكس ذلك على طول الخط، فالقصيدة وضعها بالعبرية الشاعر نفتالي هرز إمبر المولود في جاليشيا عام 1856 والمتوفي في نيويورك عام 1909 والذي تنصَّر بعض الوقت وانتقل من شرق أوربا إلى غربها. وبعد استيطانه في فلسطين لم يُطق العيش فيها وانتقل منها إلى الولايات المتحدة (حيث استقر مع الملايين من المهاجرين اليهود). وكان نفتالي إمبر يكتب بالعبرية واليديشية والإنجليزية. والقصيدة متأثرة ببعض الموضوعات التي ترد في بعض الأغاني الألمانية، كما أنها متأثرة بأنشودة وطنية بولندية أصبحت نشيد بولندا القومي (“بولندا لم تضع بعد، ما دمنا على قيد الحياة”). أما فيما يتصل باللحن، فقد وضع موسيقاه صمويل كوهين الذي اقتبسها من موسيقى أغنية شعبية رومانية من مولدافيا (مسقط رأسه) تُسمَّى «العربة والثور»، وهو لحن شعبي شائع جداً في وسط أوربا، ولذا فهو موجود أيضاً في تشيكوسلوفاكيا، وقد استخدمه الموسيقار سميتنا في إحدى سيمفونياته.

    وقام الصهاينة بمحاولات عدة لإعداد نشيد قومي ليس له أصول غربية (غير يهودية)، فأعلنوا عدة مسابقات، ولكن النتيجة جاءت دائماً مخيبة للآمال. وتم تبنِّي الهاتيكفاه كنشيد رسمي للحركة الصهيونية في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933)، وهو المؤتمر الذي تم فيه أيضـاً الموافـقة على اتفـاقية الهعفراه (الترانسـفير) مع النازي. وقد أثيرت مؤخراً في إسرائيل قضية بشأن مضمون النشيد القومي، فإذا كان نشيد الهاتيكــفاه يتحــدث عن أحــلام اليهود، فكيف يمكن أن يعتبره العرب من مواطني الدولة الصهيونية نشيدهم الوطني؟

    رد

  5. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:21:16

    نفتــالي إمــبر (1851-1909)
    Naftali Imber
    شاعر يكتب بالعبرية واليديشية وأحياناً بالإنجليزية. وُلد في جاليشا لأسرة حسيدية، وتلقَّى تعليماً دينياً. ومع هذا، كانت أول جائزة أدبية حصل عليها عن قصيدة وطنية نمساوية (1870). وقد تجوَّل إمبر بعد موت أبيه من بلد لآخر. وفي إستنبول، قابل لورانس أوليفانت الصهيوني غير اليهودي الذي كان يحاول أن يبدأ حركة استيطانية بين اليهود، فعمل إمبر سكرتيراً له وذهب معه إلى فلسطين عام 1882 حيث عاش لمدة ستة أعوام وكتب مقالات للمجلات العبرية. ونشر إمبر عام 1886 مجموعة من القصائد العبرية بعنوان نجمة الصباح، وهي المجموعة التي تضم قصيدة «هاتيكفاه (الأمل)» التي كان عنوانها في البداية «تيكفاتينو» (أملنا). وقد أصبحت هذه القصـيدة نشـيد الحركة الصهيونية ثم أصبحت النشيد القومي لإسرائيل. ومما له دلالته أن مجموعة نجمة الصباح مهداة إلى أوليفانت، وهو أهـم الشـخصيات في تاريخ الصهـيونية بين غير اليهـود. ومن قصـائد إمبر الأخرى التي أحرزت شعبية بين المستوطنين، قصيدة «حراسة على نهر الأردن». وبعد موت أوليفانت، ذهب إمبر إلى إنجلترا حيث تعرَّف إلى إسرائيل زانجويل الذي رسم صورة كاريكاتيرية له (الشاعر الشحاذ) في رواية أطفال الجيتو. وقد انتقل إمبر بعد ذلك إلى الشرق وتجوَّل فيه حتى وصل إلى بومباي حيث يُقال إنه تنصَّر (ويُقال إنه تنصَّر أيضاً بعض الوقت في فلسطين، وهذه رواية يرويها صديقه إسرائيل زانجويل). وانتقل إمبر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة حيث عاش حياة بؤس وفقر وإدمان. وقد تعرَّف إلى امرأة مسيحية بروتستانتية تهوَّدت بعد أن تزوجها، ولكن الزواج انتهى بالفشل. ونشر شقيق إمبر مجموعته الشعرية الأخرى نجمة الصباح الجديدة (1902)، ولكن معظم نسخها احترق. ثم نشر ديوان شعر ثالثاً له في نيويورك عام 1905 بعد مذابح كيشينيف، وقد أهدى المجموعة لإمبراطور اليابان التي كانت في حالة حرب مع روسيا.

    وقد كتب إمبر كذلك عدة كتيبات بالإنجليزية عن القبَّالاه، وحرَّر مجلة أورييل وهي مجلة ثيو صوفية كانت تَصدُر في بوسطن. كما قام بترجمة رباعيات عمر الخيام إلى العبرية.

    والواقع أن سـيرة حـياة إمبر ذات دلالات رمـزية وواقعـية عــديدة:

    1 ـ فهو يهودي من شرق أوربا ويذهب إلى فلسطين مع صهيوني استيطاني غير يهودي،ويرحل عنها بعد وفاة الصهيوني غير اليهودي.

    2 ـ رغم أن إمبر تلقَّى تعليماً دينياً، إلا أن إيمانه الديني تزعزع تماماً ويتضح هذا في تَنصُّره بعض الوقت ثم رجوعه عن ذلك ثم زواجه من امرأة مسيحية ثم انشغاله بالقبَّالاه. لكن تهوُّد هذه المرأة يبين مدى تَداخُل المسيحية واليهودية بعد أن تمت علمنتها من الداخل.

    رد

  6. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:21:45

    تاريــخ الصهيونية في روسـيا
    History of Zionism in Russia
    لعبت روسـيا دوراً مهـماً في تاريخ الحركة الصهيونية الاستيطانية، فقد كانت أوضاع اليهود في روسيا تربة خصبة لنمو أية أفكار تبشر بالخلاص، سواء الفردي مثل الحسيدية أو القومي مثل الصهيونية. ومثلها مثل العديد من دول شرق أوربا، بدأ التوجه الصهيوني فيها بنشأة حركة أحباء صهيون في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

    وحينما نشر هرتزل كتابه دولة اليهود، التف حوله صهاينة روسيا، وقد انعكس هذا في التمثيل الروسي في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) الذي وصل إلى الثلث، فمن بين 197 مندوباً كان هناك 66 مندوباً روسياً. ومن هؤلاء شخصيات احتلت مراكز مهمة في الحركة الصهيونية فيما بعد مثل ليو موتزكين وفلاديمير تيومكين وهرمان شابيرا وغيرهم.

    وقبل المؤتمر الصهيوني الثاني (1898)، اجتمع القادة الصهاينة الروس، ومنهم صهاينة الجزء الروسي من بولندا في وارسو، وظهر في هذا الاجتماع أن ثمة خلافاً في الرأي بينهم وبين القيادة العامة للمنظمة الصهيونية العالمية. وقد كان هذا الخلاف يعبِّر عن اختلاف في التوجه، فبينما اتجهت القيادة العامة ذات المنحى التوطيني إلى التفاوض مع الأتراك للحصول على وثيقة تتيح لليهود استيطان فلسطين، طالب الصهاينة الروس ذوو الاتجاهات الاستيطانية بالقيام بمشاريع استيطان فعلية في فلسطين وتنظيم برامج ثقافية تمهيداً لتوطين اليهود في فلسطين. ورغم هذا، لم يصل الخلاف إلى حد القطيعة أو الانفصال، فقد كان كل فريق بحاجة للآخر، فالروس (الاستيطانيون) كانوا في حاجة إلى الغربيين (التوطينيين) لإمدادهم بالدعم المادي والسياسي اللازم، والغربيون كانوا بحاجـة للروس لأنهم يمثلون المـادة البشـرية الخام. وعلى هذا، حضر الصهاينة الروس المؤتمر الثاني بينهم ياحيل تشيلينوف وحاييم وايزمان وناحوم سوكولوف وشماريا ليفين وموتزكين الذي قدَّم تقريراً مفصلاً عن رحلته التي قام بها بتكليف من المؤتمر الصهيوني الأول (1897) إلى فلسطين.

    وازدادت قـوة الصهيونية الروسـية وسط المنظمة العالمية بمرور الوقت، فقد حضر المؤتمر الرابع في لندن عام 1900 أكثر من 200 مندوب روسي، وقاموا في المؤتمر الخامس في بازل عام 1901 بتشكيل “العصبة الديموقراطية” برئاسة وايزمان وموتزكين التي عبَّرت عن تطلعات الروس الاستيطانية مقابل المسعى التوطيني الذي التزم الغربيون به عن طريق العمل الدبلوماسي والضغط السياسي.

    وشكَّل الجناح الأرثوذكسي المتدين بقيادة الحاخام إسحق رينز حركة المزراحي للتعبير عن مخاوف المتدينين من سيطرة العلمانيين. وفي عام 1902، عُقـد المؤتمر الصهيوني الأول لعمـوم روسـيا في مدينة منـسك.

    وقام أحاد هعام وناحوم سوكولوف بطرح فكر العلمانيين فيما يخص الثقافة والتربية “اليهوديتين”. وقد عارضت حركة المزراحي هذا الفكر بشدة تحت قيادة رينزو شمويل ياكوف. ووصلت الحركة الصهيونية إلى حل توفيقي يقبل جود اتجاهين متعارضين في الصهيونية فيما يخص التربية والثقافة اليهودية. والواقع أن هذا الحل وتلك الطريقة التوفيقية التلفيقية المستمرة حتى اليوم إنما تكشف عن جانب مهم وخاصية أساسية في الصهيونية الاستيطانية ألا وهي محـورية فكرة الاسـتيطان نفسـها التي تتـلاشى معها الفروق الأخرى.

    وقد أثارت زيارة هرتزل لروسيا في صيف 1903 ومحاولته مقابلة وزير الداخلية فون بليفيه ضجة استنكارية واسعة في صفوف الصهاينة الروس الذين عبَّروا عن رفضهم أسلوب التعامل مع من كانوا يعتبرونه جلاد اليهود والمسئول عن المذابح اليهودية.

    وفي المؤتمر الصهيوني السادس (1902)، اتُخذت تلك المسألة تكئة لمعارضة هرتزل في مسألة أهم هي اقتراحه الرامي إلى وضع خطة التوطين في شرق أفريقيا. وقد كانت الحركة الصهيونية الروسية بشُعبها التي تعدَّت 1572 جمعية محلية (عام 1903) تمثل القوة الأولى في المنظمة وتمثل المادة الخام البشرية الأهم. ومن ثم، لم يكن بالإمكان الاستهانة بمعارضة الصهاينة الروس لهذا المشروع. ويمكننا أن نقول إن هذه المعارضة قد تصاعدت حتى بلغت ذروتها في أكتوبر عام 1903 وتجلَّت في شكل مؤتمر كراكوف الذي حضرته القيادات الصهيونية الروسية كافة وقُدِّم في هذا المؤتمر تهديد صريح لهرتزل بضرورة ترك مشروع شرق أفريقيا أو مواجهة انسحاب شامل من المنظمة. وفي مؤتمر بازل عام 1905، حدث الصدام الحاد بين التوطـينيين بقيادة إسـرائيل زانجويل وبين الصهاينة الاستيطانيين الروس، وخصوصاً بعد موت هرتزل. وانتصر الاستيطانيون وانفصل زانجويل مكوِّناً المنظمة الصهيونية الإقليمية.

    بيد أن التأثير الأعظم للإقليميين كان على الحركة العمالية الصهيونية التي كانت لا تزال وليدة عام 1905 ولم تكن ذات شأن بين الحركات العمالية في روسيا في هذا الوقت، حيث رأى القادة العماليون أن أية هجرة يهودية إلى أي مكان ستشكل في النهاية حركة استيطان ذات طابع عمالي ومن ثم تنحل المشكلة اليهودية حلاًّ اشتراكياً. وكان الداعية الأساسي لهذه الحركة هو الزعيم الصهيوني بير بوروخوف. وقد تعرضت الحركة الصهيونية في هذا الوقت إلى معارضة قوية في صفوف أعضاء الجماعات اليهودية من حزب البوند الذي كان يدعو إلى نبذ فكرة الهجرة وإلى الاستقلال الذاتي في إطار روسيا الكبرى. وقد ساهمت الحركة العمالية الصهيونية في حركة الهجرة الروسية الثانية التي اسـتمرت بين عامي 1904 و1914 والتي أقـامت مسـتوطـنات مثل داجانيا.

    وقد أيَّدت الحكـومة الروسـية الاتجاهات الاستيطانية ورحبت بالهجرة، إلا أن مقررات مؤتمر هلسنجفورس عام 1906، التي دعت إلى تقوية الحركة داخلياً والدفاع عن حقوق اليهود القومية، أثارت شـكوك الحكومة القيـصرية، وهو ما حـدا بها إلى منع الحركة عام 1907. وفي عام 1908، زار ديفيد ولفسون رئيس المنظمة الصهيونية العالمية سان بطرسبورج وحصل ثانيةً على وعد بالاعتراف بالنشاطات الصهيونية الخاصة بالصندوق القومي والصندوق الاستعماري. بيد أن الحكومة القيصرية رفضت التصريح بإعادة المنظمة للمجال الشرعي. ورغم هذا، استمر تأثير المنظمة الروسية عالمياً، فحصل الصهاينة الروس على مقاعد أساسية في اللجنة التنفيذية للمنظمة العالمية في المؤتمر العاشر عام 1911 وفي المؤتمر الحادي عشر في فيينا عام 1913.

    ومع اندلاع ثورة فبراير عام 1917 في روسيا، انتهت كل المعـوقات التي كانت تضـعها الحكومة القيصـرية أمام الحركة الصهيونية، فاجتذبت أعداداً ضخمة من اليهود الذين شردتهم الحرب وأضرت بهم. وعُقد مؤتمر صهيوني لعموم روسيا في بتروجراد في 24 مايو عام 1917 حضره 552 مندوباً يمثلون 140 ألف شيقل بالمقارنة بعام 1913 حيث كان عدد دافعي الشيقل 26 ألفاً فقط. وقد أقر هذا المؤتمر مقررات مؤتمر هلسنجفورس وصاغ برنامجاً موحداً لكل الجماعات الصهيونية للمشـاركة في انتخـابات الجمعية التأسيسـية لعموم يهود روسيا. ودُعيت اللجنة التنفيذية الجديدة للعمل على إعداد مؤتمر عام. وحينما عُقد المؤتمر، حضره جوزيف ترومبلدور من فلسطين ودعا إلى إنشاء جيش من اليهود الروس لاحتلال فلسطين مروراً بالقوقاز، وأيَّد حوالي 20 مندوباً أفكار جابوتنسكي حول التعاون مع بريطانيا من أجل تكوين الفيلق اليهودي. بيد أن الغالبية العظمى كانت تؤيد فكرة حياد اليهود التي تبنتها المنظمة الصهيونية العالمية. وقد انتهى هذا الحياد مع صدور وعد بلفور عام 1917.

    ومع قيام الثورة البلشفية في 24 أكتوبر 1917، لم تتأثر الحركة الصهيونية في البداية، بل أُقيم أسبوع لفلسطين في ربيع عام 1918. وسيطر الصهاينة على الاجتماعات اليهودية التي قاطعتها الأحزاب الاندماجية، ففي مؤتمر موسكو الذي حضره 149 مندوباً من أربعة تجمعات يهودية محلية في روسيا كان الصهاينة هم الوحيدون المُمثَّلون، وحصل الصهاينة في أوكرانيا على 55% من مقاعد المجالس اليهودية. ولكن، مع ازدياد قوة الحكم السوفيتي واستتباب الأمر للشيوعيين، أصبحت الصهيونية هدفاً للاتهامات الحكومية، وتم إلغاء الأحزاب والمنظمات الصهيونية وألُقي القبض على بعض القادة. وقد قام القسم اليهودي في الحزب الشيوعي السوفيتي الجديد بمحاربة الروح (الانعزالية والكهنوتية) الصهيونية بين الجماعات اليهودية. وفي العشرينيات، قامت الحركة الصهيونية بعدة محاولات للحصول على حق القيام بنشاط صهيوني علني، وخصوصاً في المجال الثقافي، وفي مجال تشجيع الهجرة لفلسطين (مثلما حدث في المفاوضات شبه الرسمية التي أجراها عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية م.د. إدر أثناء زيارته لموسكو عام 1921). بيد أن هذه المحاولات باءت بالفشل. وقد استؤنف النشاط الصهيوني العلني في روسيا وأوكرانيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

    رد

  7. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:22:15

    تاريــخ الصهيونيــة في بولنـدا
    History of Zionism in Poland
    لا يمكن الحديث عن تاريخ متجانس للصهيونية في عموم بولندا. فقد ارتبطت الحركة في كل قطاع من قطاعات بولندا بتاريخ البلد الذي ينتمي إليه هذا القطاع، بمعنى أن يهود بولندا في القطاع الألماني تأثروا بنظرة اليهود الاندماجية الألمان ومن ثم كانوا يرفضون الصهيونية. لذا، سينقسم الحديث عن تاريخ الصهيونية في بولندا إلى مرحلتين: المرحلة الأولى تشمل تاريخ الصهيونية في بولندا المقسَّمة والمحتلة، والمرحلة الثانية تشمل تاريخ الصهيونية في بولندا المستقلة. وتنقسم المرحلة الأولى بدورها إلى ثلاثة أقسام حيث يعالج كل قسم تاريخ الصهيونية في قطاع بعينه من قطاعات بولندا:

    المرحلة الأولى: بولندا المحتلة المقسَّمة:

    أ) الصهيونية في القطاع الألماني:

    كان عدد اليهود في القسم الألماني من بولندا لا يتعدى 50 ألف نسمة في بداية القرن العشرين، وقد تأثروا جميعاً بالفكر الاندماجي السائد بين اليهود الألمان حتى أن اهتمامهم باليهودية في ذاتها لم يكن كبيراً. ومن ثم، كان موقفهم من الصهيونية معادياً وبشدة لخطورة تلك الأفكار على وضعهم الاجتماعي في ألمانيا. ورغم وجود داعـيين صهـيونيين مهـمين، هـما زفي هيرش كاليشر وإليا جوتيماخر، في هذا القطاع، وإقامة أول مؤتمر لحركة أحباء صهيون في كاتوفيتش عام 1884، إلا أن تأثير هذا على الجماعة اليهودية في القطاع الألمـاني كان ضئيـلاً جــداً (بل يمكـن القـول بأنـه كان منعدماً).

    ب) الصهيونية في القطاع الروسي:

    بلغ تعداد السكان اليهود في القطاع الروسي من بولندا، في نهاية القرن التاسع عشر، حوالي 2 مليون نسمة. وكان هذا القطاع قطاعاً متقدماً اقتصادياً، بل من أغنى مناطق بولندا وروسيا كلها، وكان مركزاً للصناعة والتجارة ومحطة مهمة بين روسيا القيصرية وباقي أوربا. ولم يكن يهود هذا القطاع متعاطفين في البداية مع الصهيونية بل كان موقفهم، على حد تعبير الموسوعة اليهودية، “معادياً ومضاداً للصهيونية”. وذلك فضلاً عن أن المذهب الأرثوذكسي المنتشر بين يهود هذه المنطقة كان معادياً بشدة لفكرة الصهيونية. وكان حَمَلة لواء الصهيونية الأساسيون في تلك المنطقة هم الليتفاك، أي اليهود القادمون من ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا وفنلندا، أي دول البلطيق الروسية في ذلك الوقت، والذين كانت الصهيونية بالنسبة لهم وسيلة للخلاص من القمع المزدوج من قبَل الروس وأهالي البلطيق.

    بيد أن الوضع كان مختلفاً في مناطق أخرى من القطاع الروسي في بولندا حيث استُقبلت الأفكار الصهيونية منذ البداية بترحاب شديد لأنها كانت تمثل طريقاً للخلاص، وخصوصاً وسط القطاعات الهامشية من يهود بولندا الروسية الذين كانوا يعيشون بعيداً عن منطقة الوسط الصناعية المتقدمة.

    وكانت السلطات الروسية ترحب بالأفكار الصهيونية على أساس أنها وسيلة ناجعة لمكافحة الأفكار الاشتراكية والثورية، وللتخلص من الفائض البشري اليهودي. وتقول الموسوعة الصهيونية في هذا الصدد: “كان رد فعل الأغيار البولنديين إيجابياً تجاه الحركة الصهيونية حيث إنهم نظروا للاستيطان في فلسطين باعتباره السبيل الأمثل للإسراع بطرد اليهود من بولندا”.

    وقد أدَّى إقرار برنامج هلسنجفورس (1906)، الذي تبنَّى مطلب الدفاع عن المصالح الآنية و”الحقوق المشروعة” للقومية اليهودية إلى وضع الجماعة اليهودية المؤيدة للصهيونية في موقف عداء مباشر مع غيرها من الأقليات والقوميات وكذلك مع السلطات القيصرية التي كانت تنادي بالقومية الروسية السلافية كقومية فوق القوميات. وقد اتخذ هذا العداء أحياناً شكل القمع السياسي ومصادرة الصحف، واتخذ أحياناً أخرى شكل مقاطعة اليهود اقتصادياً، وخصوصاً في الأوساط الشعبية. وقد شهدت تلك الأعوام أيضاً مجموعة يهودية معادية للصهيونية هم اليهود الذين عملوا من خلال البرلمان البولندي أو «السييم». وقد سُمِّيت تلك المجموعة «السييميون» أو «مؤيدو الانضمام للسييم»، وكانت الحركة الصهيونية تقاطـع البرلمانات سـواء الروسـية (الدوما) أو البولندية (السييم). ولكن، مع التطورات السياسية وظهور تلك الجماعة المنافسة، نجح الصهاينة في انتخاب أحد ممثلي الحركة في لودز. ورغم هذا النشاط السياسي والدعائي، لم تنجح الحركة الصهيونية في تهجير عدد كبير من اليهود إلى فلسطين في هذه الفترة.

    ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، توقفت النشاطات الصهيونية في بولندا، وبعد قيام دول الوسط باحتلال بولندا المؤتمر، بدأت حركة عمال صهيون في الحركة تحت رعاية قوى الوسط التي كانت تبغي توظيف النشاط الصهيوني في مواجهة الأطماع البريطانية في الشرق العربي.

    جـ) الصهيونية في جاليشيا (القطاع النمساوي من بولندا):

    اختلف نمو وتطوُّر الحركة الصهيونية في جاليشيا، عنها في القطاعات الأخرى من بولندا، اختلافاً بيَّناً. فعلى جانب كانت الحكومة النمساوية أكثر ليبرالية من الحكومة القيصرية في روسيا، وكانت الحركة الصهيونية من جانب آخر تطلب عون النمساويين والألمان من أجل تحقيق فكرة الوطن القومي اليهودي. وقد تطوَّرت الحركة الصهيونية في جاليشيا في صفوف دعاة حركة التنوير اليهودية. وبمعنى آخر، تأثرت الحركة الصهيونية في جاليشيا منذ البداية بالرؤية المعرفية الإمبريالية الكامنة في التنوير وبالبُعْد القومي الرومانسي الذي نشأ في دول الوسط في أوربا. وكانت إمبراطورية النمسا/المجر تعتبر اليهود جماعة دينية لا جماعة قومية. وفي خضم الصراع بين القوميات داخل الإمبراطورية، حاول البولنديون ضم أعضاء الجماعة اليهودية لصفوفهم من أجل التفوق على الأوكرانيين عددياً، كما حاول الأوكرانيون فعل الشيء نفسه. بيد أن هذا الاتجاه لاقى معارضة كبيرة من جانب الصهاينة الاستيطانيين الذين نظروا لهذا الاتجاه على أنه تكريس للاندماج، وأصروا على أن هدف الصهيونية هو الهجرة إلى فلسطين ومن ثم أصروا على أن يقتصر دورها في البلاد الأخرى على الجانب التثقيفي والمالي اللازم لتحقيق الهدف الأساسي، أي الاستيطان في فلسطين. من ثم، فقد وصل مؤتمر كراكوف عام 1906 إلى نوع من الحل التوفيقي في هذا المضمار حيث أنيط بالحزب القومي اليهودي الذي كان حديث النشأة مسئولية الدفاع عن حقوق اليهود (المدنية والسياسية)، بينما أنيط بالمنظمة الصهيونية مهمة جَمْع المال والتثقيف الصهيوني. وقد كان مؤتمر كراكوف هذا حلبة خاصة لصهاينة جاليشيا رغم أنه كان، من الناحية النظرية، يمثل سائر الاتجاهات الصهيونية في النمسا. وفي عام 1907، نجح الحزب القومي اليهودي الذي كان مجرد واجهة في إرسال أربعة من ممثليه إلى أول برلمان نمساوي، كان ثلاثة منهم من جاليشيا والرابع من بوكوفينا. وفي خضم هذا الصراع السياسي، نجح الصهاينة في إحكام قبضتهم على التجمعات اليهودية في جاليشيا من خلال العديد من المطبوعات اليديشية والبولندية، بل نجح الصهاينة في جاليشيا في إقامة مستوطنة خاصة بهم في فلسطين ونشروا سلسلة من المدارس العبرية وسيطروا على مدارس البارون دي هيرش اليهودية وطردوا الاندماجيين منها. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن أعداداً كبيرة من يهود جاليشيا كانوا من الفرانكيين (أتباع فرانك الذي تأثر بالتنوير والفكر القومي الرومانسي). ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أصيبت الحركة الصهيونية في بولندا النمساوية بالشلل حيث احتلت القوات الروسية (في بداية الحرب) جاليشيا لمدة سنة، وأدَّى هذا إلى فرار ما يزيد على نصف السكان اليهود إلى داخل النمسا وخصوصاً لاتفيا. ومع تغيُّر مجريات الأمور في الحرب، استعادت الحركة الصهيونية نشاطها ولكن في حذر، وذلك تحسباً لما ستسفر عنه الحرب.

    المرحلة الثانية: بولندا المستقلة:

    وتتميَّز تلك المرحلة بما يلي:

    1 ـ زيادة عضوية المنظمة الصهيونية. وكانت منافستها الوحيدة للسيـطرة على يهـود بولندا هي منظمة أجـودات إســرائيل الأرثوذكسـية.

    2 ـ نجاح جميع الحركات الصهيونية في مختلف قطاعات بولندا في الاندماج وسط الحركات العمالية (عمال صهيون) والدينية (مزراحي) ولكنهم أخفقوا في الاندماج في الحركات الأخرى.

    3 ـ أدَّى هذا الفشل إلى ظهور صراعات حزبية هي في الواقع تعبير عن الصراع حول الرؤية بين الاستيطانيين والتوطينيين. فقد حاول التوطـينيون دائماً إبعـاد الصهيونية عن دخول مواجهات مع الحكومات، بيد أن الاستيطانيين كانوا يرون أن المواجهة مع الحكومة تدفع إلى هجرة اليهود إلى فلسطين وهو الهدف الأساسي. وقد أدَّى هذا في النهاية إلى هزيمة التوطينيين (الصهاينة العموميين).

    4 ـ ازدادت أهمية الجماعة اليهودية في بولندا وازدادت أهمية الهجرة اليهودية من بولندا إلى فلسطين.

    ورغم الانقسامات التي حدثت في صفوف الحركة، فإن كل الأحزاب الصهيونية استمرت داخل نطاق المنظمة الصهيونية العالمية عدا حركة اليسار العمالي المتطرف، عمال صهيون والصهاينة التصحيحيين. وقد ارتبطت الحركة الأولى بالحركات الاشتراكية والعمالية في العالم، وساعد نجاح البلاشفة في الاستيلاء على السلطة على تدعيم موقفها الرافض للتعاون مع البورجوازية. وبينما اعتمد العماليون على نجاح البلاشفة لتدعيم حركتهم وسط العمال اليهود، اعتمد التصحيحيون على عدوانيتهم وطابعهم القومي الاستيطاني المتطرف لاجتذاب الشباب. وقد نجح التصحيحيون في أن يحركوا الشباب اليهودي في بولندا فأعلنوا عام 1930 عن خطة ضخمة لتهجير اليهود من بولندا إلى فلسطين. وقد قوبلت الخطة برفض شديد من قبَل أعضاء الجماعات اليهودية لأنها ترسخ الموقف البولندي المعادي لليهود، ولكنها نجحت في دعم موقف التصحيحيين وسط الحركة الصهيونية ذلك أن الحكومة البولندية التي كانت تضم عناصر معادية لليهود استقبلت الخطة بترحاب شديد، وقامت بدعم التصحيحيين باعتبارهم العنصر الصهيوني الذي يعبِّر بشكل متبلور عن الروح الاستيطانية وعن رفض أي شكل من أشكال الاندماج أو الانتماء لغير “القومية اليهودية”.

    وقد تركزت المعارضة اليهودية للصهيونية، أساساً، في الحركات التي كانت تنادي باندماج اليهود وسط المجتمع البولندي مثل البونديين والسييميين (أي البرلمانيين). بيد أن النواة الأساسية للمعارضة في الأوساط اليهودية كانت من صفوف اليهود الأرثوذكس في حركة أجودات إسرائيل وغيرهم من حاخامات الحسيديين (رغم أن بعض الحسيديين كانوا مؤيدين للصهيونية).

    وكان الاندماجيون من البونديين والسييميين يعارضون العبرية ويدعون لاستخدام اليديشية بوصفها لغة قومية. وقد تميزت علاقة هؤلاء بالحكومة البولندية بالتوتر نظراً لطابعـهم الذي كان قـومياً واندماجياً في آن واحد، وكذلك بسبب الأيديولوجيا الثورية التي كانوا ينادون بها.

    وقد لعبت الحركة الصهيونية في بولندا دوراً مهماً في تهجير اليهود البولنديين بين الحربين، حتى أن بولندا صارت المصدر الأول للمادة الاستيطانية البشرية في فلسطين بعد أن منع الشيوعيون اليهود من الهجرة من روسيا، وكان معظم المهاجرين من الشباب من الصهاينة العماليين ذوي التوجه الاستيطاني. وقد جُرِّم النشاط الصهيوني بعد أن وصل الشيوعيون إلى الحكم.

    رد

  8. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 10:22:40

    تاريـــخ الصهيونيــة في ألمانيــا
    History of Zionism in Germany
    كانت ألمانيا في بداية الحركة الصهيونية محط أنظار القادة الصهاينة ومحور اهتمامهم لأسباب عديدة نوجزها فيما يلي:

    1 ـ كانت ألمانيا مهد الفكر القومي الأوربي العضوي وهو الفكر الذي انطلقت منه الصهيونية والإطار الذي تحركت من خلاله.

    2 ـ لم تكن ألمانيا قد كوَّنت مستعمراتها بعد، ومن ثم كانت التطلعات الإمبريالية الألمانية محتاجة إلى طلائع استعمارية استكشافية، وقد عرضت الحركة الصهيونية نفسـها على الحكـومة الألمانية للقيام بهذا الدور.

    3 ـ كانت علاقة ألمانيا بالشرق وبالإمبراطورية العثمانية علاقة قوية. ومن ثم، نظر الصهاينة إلى ألمانيا على أنها المعْبَر الأساسي لهم نحو فلسطين. لكل هذا، يمكننا أن نقول إن ثمة اعتبارات معرفية وسياسية وعملية جعلت العلاقة بين الصهيونية وألمانيا علاقة خاصة على مدى تاريخها.

    وقد كانت الحركة الصهيونية في ألمانيا ذات توجُّه توطيني، وكان موقف معظم اليهود الألمان من الصهيونية معادياً وبشدة. وقد كانت خطة هرتزل الأصلية هي إقامة المؤتمر الصهيوني الأول (1897) في ميونيخ، ولكن محاولته باءت بالفشل بسبب العداء الشديد الذي واجهه من الجماعة اليهودية.

    ورغم أن عدد المندوبين الألمان في المؤتمر الصهيوني الأول كان 40 مندوباً، إلا أن معظمهم لم يكن ألمانياً، فبعضهم كان قادماً من فلسطين والبعض الآخر كان مهاجراً من دول أوربا الشرقية.

    أُسِّست في ألمانيا أكثر من حركة صهيونية المنحى، والطابع المميِّز لهذه الحركات جميعاً هو استخدامها ديباجة علمية مثل جمعية الإسـرائيليين ذات الطـابع التاريخي التي تأسست في برلين عام 1883، والجمعية العلمية ليهود روسيا في برلين وتأسست عام 1889 وكان أعضاؤها من يهود شرق أوربا، وجمعية تنمية الزراعة والحرف في فلسطين والتي أسَّسها ماكس بودنهايمر وديفيد ولفسون في كولونيا عام 1892، وقد تحوَّلت عام 1897 إلى الجمعية اليهودية القومية وطالبت بإيجاد دولة يهودية. والطابع العلمي لهذه الجمعيات يدل على أنها جمعيــات نخبـوية ثقافية كما يشير إلى طرق التفكير المنطقية المنظمة الصارمة التي تتسم بها الصهيونية في ألمانيا.

    وقد تأسَّست في أكتوبر 1897 الجمعية الصهيونية الألمانية لتنضم إلى الجمعيات الصهيونية في ألمانيا. وقد نمت تلك الجمعية ببطء. ففي عام 1912، كان عدد أعضائها 8.400 ، ووصل هذا الرقم عام 1927 إلى 20.000 ، ثم زاد إلى أقصى عدد عام 1934 بعد استيلاء النازيين على السلطة وصار 35.000. وكانت الجمعية تُصدر صحيفة اليوديشر روندشاو، كما كانت تمتلك مؤسسة دار النشر اليهودية، وشهد عام 1912 انعقاد المؤتمر الإقليمي الصهيوني الذي أصدر قرار بوزن والذي نص على أن: “الهجرة هي البرنامج الأساسي للصهيوني في حياته” وعلى الصهيوني أن يربط بين قدره الشخصي وبين مصير الوطن القومي عن طريق الوسائل الاقتصادية والمصالح المادية. وكما نرى، فإن هذا البرنامج التوطيني في الأساس يتيح الفرصة للقادة الصهاينة الألمان من أمثال المالي الكبير ولفسون والعالم البيولوجي واربورج للارتباط المزدوج، وهو ما يتيح لهم إمكانية أكبر داخل المجتمع الألماني حيث تصير الصهيونية بالنسبة لهم نوعاً من تأكيد الانتماء لألمانيا.

    وقد كان تأثير الاتحاد الصهيوني الألماني قوياً، وبخاصة في الأعوام الخمسة عشر التي بقيت خلالها رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية في ألمانيا سواء في كولونيا أثناء فترة رئاسة ديفيد ولفسون أو في برلين أثناء فترة رئاسة أوتو واربورج. ولقد ساعد وجود المنظمة في ألمانيا على إحجام الأتراك (حلفاء الألمان) عن اعتقال اليهود في فلسطين. ومن ثم، لعبت الحرب العالمية الأولى في ألمانيا دوراً حاسماً في تاريخ الصهيونية لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته بريطانيا بعدها بإصدارها وعد بلفور. وقد كان النفوذ الصهيوني لدى الحكومة الألمانية والضغط الذي مارسته ألمانيا على تركيا العثمانية هو الذي حمى الاستيطانيين في فلسطين. بل إن بعض الاستيطانيين من أمثال ديفيد بن جوريون جرى اعتقالهم على يد الإنجليز بوصفهم رعايا دولة معادية. وحتى بعد انتقال المنظمة العالمية من ألمانيا، احتل قادة صهاينة ألمانيا مواقـع مهمـة في المنظمة العـالمية وإن كانت أقـل مما كانوا يحتلون بالطبع، ومن هؤلاء فليكس روزنبلوت وريتشارد لختهايم وكورت بلومنفيلد. وقد احتفظت الحركة الصهيونية في فترة جمهورية فايمار (1918 ـ 1933) بطابعها التوطيني، فكانت حركة نخبوية ولم تكن حركة جماهيرية. وكان ظهور النازية فرصة هائلة لازدهار الحركة الصهيونية، فزادت العضوية زيادة هائلة، كما تعاونت الحكومة النازية مع الحركة الصهيونية في ترحيل اليهود من ألمانيا داخل إطار ما عُرف باتفاق الهعفراه أو اتفاق التهجير الذي أصبح بمنزلة بوابة الخروج الوحيدة ليهود ألمانيا حيث أُجبروا على الذهاب إلى فلسطين، أي أن الحركة الصهيونية التوطينية تحوَّلت إلى حركة استيطانية وتم توفير المادة الخام البشرية نتيجة الأزمة التي خلقتها النازية ونتيجة تعاون الحكومة النازية مع المنظمة الصهيونية. ولقد استمرت الحركة الصهيونية في العمل الشرعي في ألمانيا حتى عام 1938، أي أن التعاون بين النازية والصهيونية ظل قائماً طالما ظلت المصالح المشتركة قائمة، ثم انفض الرباط مع إحساس كل منهما بعدم حاجته للآخر.

    وقد أُقيم اتحاد صهيوني جديد بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً وأُعيد تكوين الحركة الصهيونية في ألمانيا عام 1954 واعترفت بها المنظمة العالمية عام 1956. وهي تلعب دوراً مهماً في جمع المال ودق ناقوس الجرائم النازية، أي أنها استعادت الطابع التوطيني السالف للحركة

    رد

  9. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:14:27

    الصليبيون (الفرنجة)
    The Crusaders
    «الصليبيون» ترجمة لكلمة «كروسيدرز Crusaders» المشتقة من كلمة «كروس cross»، ومعناها «صليب». وهي عبارة تُستخدَم في الخطاب السياسي والتاريخي في الغرب للإشارة إلى الفرنجة الذين شنوا عدة حملات على العالم العربي والإسلامي في القرن الثاني عشر، وقد تَبنَّى كثير من العرب المحدثين هذا المصطلح. ونحن نستخدم في هذه الموسوعة عبارة «حروب الفرنجة» للإشارة إلى الحملات الغربية التي جُرِّدت ضد الشرق الإسلامي لنهبه، ولم تكن المسيحية سوى ديباجة سطحية استخدمها الغزاة ولا علاقة لها برؤيتهم للكون، ونستخدم عبارة «حملة صليبية» للإشارة إلى الحملات التي كانت تُجرِّدها الكنيسة ضد فرق المهرطقين في جنوب فرنسا وغيرها من المناطق، فهذه حملات كانت تتم باسم المسيحية ولصالحها. ونحن نعتبر حملات الفرنجة تعبيراً عن الإرهاصات الصهيونية الأولى

    رد

  10. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:14:59

    حملات الفرنجة والجماعات اليهودية في غرب أوربا وفلسـطين
    The Crusades and the Jewish Communities in Western Europe and Palestine
    تُسمَّى «حروب الفرنجة» في الخطاب الغربي «الحروب الصليبية» نسبة إلى الصليب. وهو مصطلح يُطلَق على الحروب التي شنها حكام أوربا المسيحية الإقطاعية لاحتلال فلسطين إبان العصور الوسطى. وهي حروب كانت تساندها حركة سياسية واجتماعية ضخمة قادتها النخبة الحاكمة (الكنيسة والنبلاء) ووجدت صدى عميقاً لدى الجماهير الشعبية التي انضمت إليها بأعداد ضخمة لم تضعها النخبة الحاكمة نفسها في الحسبان .

    ويرى د. سعيد عاشور أن الفرنجة أو من يقال لهم «الصليبيون» هم من جموع المسيحيين الغربيين الكاثوليك الذين خرجوا من بلادهم في شتى أنحاء الغرب الأوربي، واتخذوا الصليب شعاراً لهم لغزو ديار الإسلام، وبخاصة منطقة الشرق الأدنى وبلاد الشام حيث الأراضي المقدَّسة. ومعنى هذا أن المسيحيين الشرقيين من روم وأرمن وسريان وأقباط ونحوهم لا يدخلون في دائرة مصطلح «الصليبيين» لأن هؤلاء من أهل البلاد (وليسوا وافدين عليها من الخارج) ربطتهم بالأرض التي ينتمون إليها روابط أصيلة جذرية ترجع إلى ما قبل الإسلام. وعاش معظمهم قبل الحركة الصليبية تحت مظلة الإسلام يتمتعون بما كفلته لهم هذه الديانة من حقوق ويؤدون ما فرضته عليهم من واجبات. ومن ثم نفضل اسـتخدام مصطلح «فرنجة» في هذه الموسـوعة بدلاً من «الصليبيين». ولكننا نستخدم مصطلح «صليبيين» أحياناً للإشارة إلى الحمـلات الصـليبية التي جرَّدتها الكنيـسة ضـد الهرطقات المختلفة، أو للتعبير عن المنظور الغربي لحملات الفرنجة.

    وتشير المصادر المعاصرة إلى الصليبيين باعتبارهم «الفرنجة» أو «الفرنج». وهذا يعود إلى أن المكون البشري لهذه الحركة الاستيطانية الغربية لم يكن متجانساً عرْقياً، ورغم هذا فإن الفرنجة سكان بلاد الغال (غاليا) التي عُرفت فيما بعد باسم «فرنسا» كانوا أكثر إقبالاً من غيرهم على المشاركة في الحركة الاستيطانية. وتشير بعض المصادر اليهودية إلى الفرنجة بكلمة «إشكناز» وهي الكلمة التي استُخدمت فيما بعد للإشارة إلى يهود أوربا، خصوصاً ألمانيا وبولندا.

    وحروب الفرنجة جزء من المواجهة التاريخية العامة بين الحضارة الغربية وحضارة الشرق الأدنى والتي تعود بجذورها إلى بداية ظهور الحضارة الغربية نفسها حين وصلت شعوب البحر (الفلستيون) من كريت وبحر إيجة إلى ساحل مصر، ثم استقروا في ساحل أرض كنعان بعد أن صدهم المصريون. وحينما هيمن الفرس على الشرق الأدنى، أخذت المواجهة شكل اشتباك عسكري بينهم وبين الدول المدن اليونانية التي صدت الغزو الفارسي. ثم قام الإسكندر الأكبر بغزو الشرق وأسس الإمبراطورية اليونانية التي انقسمت إلى ثلاث امبراطوريات بعد موته. كما هيمن الرومان بعد ذلك على معظم الشرق الأدنى القديم. وقد انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسـمين: الإمبراطـورية الشرقـية (البيزنطية)، والامبراطــورية الغربية. ومع وصول الإسلام وقيامه بفتح المنطقة وتوحيدها، وتحويله البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية إسلامية، انحسر نفوذ العالم الغربي وأصبح محصوراً داخل القارة الأوربية. بل إن الجيب البيزنطي المتبقي على أرض الشرق في آسيا الصغرى كان قد بدأ يقع تحت هجمات السلاجقة وهي الهجمات التي أدَّت في نهاية الأمر لسقـوط الدولة البيزنطـية، وكذلك القسـطنطينية، على يد العثمانيين. وقد هُزم جيش بيزنطي بقيادة الإمبراطور رومانوس ديجينيس هزيمة ساحقة على يد السلاجقة بقيادة ألب أرسلان في مانزيكريت في أرمينيا. ثم استمر التوسع السلجوقي، فتم الاستيلاء على أنطاكية عام 1085، الأمر الذي اضطر الإمبراطور أليكسيوس كومنينوس إلى أن يطلب العون من الغرب حيث لم يجد آذاناً صاغية وحسب بل شهية مفتوحة. ويعود هذا إلى مركب من الأسباب المادية والمعنوية:

    1 ـ يُلاحَظ أن الاقتصاد الغربي بمعظم مؤسساته تساقط على أثر سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وتردَّى إلى حالة من الاقتصاد البدائي والطبيعي. ولكنه بدأ يصحو من كبوته ابتداءً من القرن التاسع الميلادي، فشهدت الفترة التي سبقت حروب الفرنجة شيئاً من الانتعاش الاقتصادي، وكانت هناك محاولات ترمي لزيادة الرقعة الزراعية عن طريق اجتثاث الأشجار وتسهيل حركة التجارة وتنظيم الأسواق الدولية والمحلية. وقد ساعدت تلك الحروب بدورها على هذا الانتعاش الاقتصادي، ذلك أن التاجر المسيحي تبع المقاتل الفرنجي بعد أن ترك كثيراً من خوفه من الطرق المجهولة وعاد بالسلع من الشرق بعد أن كان التاجر اليهودي يحتكر هذه العملية تقريباً من خلال شبكة الاتصالات الدولية اليهودية الخاصة به. كما أن الملوك والنبلاء والفرسان العائدين استعذبوا مذاق السلع الترفيهية الشرقية وهـو ما كان يعني ظهـور سوق لها في الغـرب ونشــاط للتجارة الدولية.

    2 ـ تزايد نفوذ المدن الإيطالية التجارية بخاصة البندقية وجنوا وبيزا، وأصبح لها أساطيلها التجارية الضخمة التي فكت الهيمنة الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط. وقام الجنويون والبيزيون بطرد المسلمين من قواعدهم في جنوب إيطاليـا وجزيرة كورسـيكا في القرن العاشـر الميلادي، وهيمنوا على غربي المتوسط في القرن الحادي عشر الميلادي. بل حاولت المدن الإيطالية تأمين موطئ قدم لها على ساحل المتوسط ذاته، فعبأت كل من جنوة وبيزا أسطولاً هاجم تونس عام 1087، واضطر أمير تونس بعدها إلى أن يفرج عن الأسرى المسيحيين وأن يدفع تعويضاً ويعفي التجار الجنويين والبيزيين من ضرائب الاستيراد. وكان لمدينة البندقية نشاطها أيضاً، فقد هيمنت على البحرين الأدرياتيكي والإيجي في بداية القرن الحادي عشر الميلادي ووصلت إلى البحر الأسود. ولا شك في أن حروب الفرنجة ساهمت في العملية المتصاعدة الهادفة إلى فك الحصار الذي فرضه المسلمون على تجارة الشرق، وأعطت المدن الإيطالية موطئ قدم في مواقع مهمة من شرق المتوسط. وقد حصلت هذه المدن على امتيازات وتسهيلات تجارية ضخمة داخل الممالك الخاضعة للفرنجة في الشام وفلسطين.

    3 ـ يُلاحَظ أن أوربا شهدت تزايداً في عدد السكان مع نهاية القرن العاشر الميلادي واستمر التزايد حتى القرن الثالث عشر الميلادي وهو تزايد لم تواكبه بالضرورة زيادة في الرقعة الزراعية، ومن هنا بدأت السلطات الدنيوية في تحريم امتلاك اليهود للأراضي الزراعية وهو حظر طُبِّق على الكنائس والأديرة.

    4 ـ يدور النظام الإقطاعي الغربي حول نشاطين أساسيين: الزراعة والقتال. وكما بيَّنا، كان النظام الإقطاعي يواجه تَناقُص الرقعة المزروعة. ومن القواعد الأساسية في الإقطاع الغربي أن الابن الأكبر وحده هو الذي يرث الضيعة، أما بقية إخوته فلم يكن أمام أيٍّ منهم فرصة سوى محاولة البحث عن وريثة غنية يقترن بها، أو أن ينخرط في سلك الكنيسة أو يتوجه إلى المهن الأخرى مثل القتال.

    5 ـ كان هناك ما يشـبه المجاعـة في غرب أوربا، وخصـوصاً في فرنسا، من القرن العاشر حتى أواخر القرن الحادي عشر الميلاديين. وربما كانت هـذه المجـاعة وراء النشـاط الاقتصـادي الذي شهدته الفترة، وكذلك سوء حال الفلاحين والأقنان. وتُشكِّل الحروب والمشاريع الاستيطانية وسيلة تقليدية للتخلص من العناصر المشاغبة التي لا مكان لها في المجتمع (من نبلاء بلا أرض، إلى تجار يبحثون عن مزيد من الأرباح، وفلاحين جوعى ومجرمين ولصوص) وذلك حتى يحقق المجتمع الغازي استقراراً اجتماعياً داخلياً. ويبدو أن عدد الأطفال غير الشرعيين كان يتزايد في أوربا، وكانت حروب الفرنجة وسيلة للتخلص منهم، وقد أخذت إحدى الحملات التي خرجت من أراجون عام 1269 اسم «حملة الأطفال غير الشرعيين».

    رد

  11. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:16:16

    التشـــابه بين حمـــلات الفرنجــة والمشـــروع الصهيونـي
    Similarity between the Crusades and the Zionist Project
    رغم أن حروب الفرنجة ظاهرة مرتبطة بالتشكيل الحضاري الغربي في العصر الوسيط، فقد ساهمت هذه الحروب وبعمق في صياغة الإدراك الغربي لفلسطين والعرب. ولا يملك الدارس إلا أن يُلاحظ عمق التشابه بين المشروع الفرنجي والمشروع الصهيوني الإسرائيلي، وهذا أمر متوقع لأن كليهما جزء من المواجهة المستمرة بين التشكيلين الحضاريين السائدين في الغرب والشرق العربي، كما أن حملات الفرنجة هي نقطة انطلاق أوربا نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج. والواقع أن حملات الفرنجة احتوت بذور كل أشكال الإمبريالية الأوربية التي حكمت فيما بعد حياة جميع شعوب العالم (على حد قول أحد مؤرخي حملات الفرنجة الغربيين). ولهذا، أصبحت حملات الفرنجة صورة مجازية أساسية في الخطاب الاستعماري الغربي، وأصبحت ديباجاتها هي نفسها ديباجة المشروع الاسـتعماري الغربي. وقد رأى كثير من المـدافعين عن المشروع الصهيوني، من اليهود وغير اليهود، أنه استمرار وإحياء للمشروع الصليبي أي الفرنجي ومحاولة وَضْعه موضع التنفيذ من جديد في العصر الحديث. فقد ألَّف سي. آر. كوندر عام 1897، وهو صهيوني غير يهودي ومؤسس صندوق استكشاف فلسطين، كتاباً عن تاريخ المملكة اللاتينية في القدس أشار فيه إلى أن الإمبريالية الغربية قد نجحت فيما أخفقت فيه الحملات الصليبية أي حملات الفرنجة. والواقع أن تصوُّره هذا يشبه في كثير من الوجوه تصوُّر الصحافة البريطانية وكذلك تصوُّر بعض أعضاء النخبة الحاكمة في بريطانيا بأن هجوم أللنبي على القدس يساوي حملة صليبية أخرى. وقد صرح لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، والذي أصدرت وزارته وعد بلفور، أن أللنبي شن وربح آخر الحملات الصليبية وأعظمها انتصاراً. ويمكننا أن نقول إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الفرنجي بعد أن تمت علمنته، وبعد أن تم إحلال المادة البشرية اليهودية التي تم تحديثها وتطبيعها وتغريبها وعلمنتها محل المادة البشرية المسيحية .

    وقد لاحَظ روبرت برنارد سولومون، وهو ضابط إنجليزي رأس الاتحاد الصهيوني البريطاني، أوجه التشابه بين المشروعين الفرنجي والصهيوني في دراسة له نشرها في جويش ريفيو عام 1912 تحت عنوان “مستعمرات القرن الثاني عشر في فلسطين” حيث أكد أن المشكلات التي واجهها المستوطنون الفرنجة ونجحوا في التغلب عليها تشبه من نواح كثيرة تلك المشكلات التي تواجه المستوطنين الصهاينة في فلسطين ثم أخذ في تعداد هذه النواحي. كما أشار إلى العوامل التي أدَّت إلى انهيار ممالك الفرنجة بعبارة “المؤثرات الشرقية التي أدَّت إلى الانحلال” ليحذر المستوطنين الجدد منها. وسنحاول حَصْر جوانب الشبه بين التجربتين الفرنجية والصهيونية، وتصنيفها تحت رؤوس موضوعات قد تكون متداخلة ولكنها مع هذا تيسر لنا عملية تقسيم هذه الأوجه والتعامل معها.

    ولعل نقطة التشابه الأساسية ذات طابع جغراسي ففلسطين هي النقطة المستهدفة في كل من المشروعين الفرنجي والصهيوني. ويبدو أن فلسطين مستهدفة دائماً من صناع الإمبراطوريات إذ أنها تُعَدُّ مفتاحاً أساسياً لآسيا وأفريقيا، وتُعدُّ معبراً على البحرين الأحمر والأبيض، وتقف على مشارف الطرق البرية التي تؤدي إلى العراق وإيران، وهي أيضاً معبر أساسي لشطري العالم الإسلامي. وفلسطين في واقع الأمر ليست سوى جزء من ساحل طويل يضم سوريا ومصر، يشكل فاصلاً بين البحر المتوسط في الغرب والمحيط الهندي في الشرق. ويُعد هذا الموقع، بالتالي، فاصلاً بين مراكز النشاط في أوربا الغربية والشرق الأقصى. كل هذا يبين تشابك المصير بين سوريا ومصر من جهة وفلسـطين من جهـة أخرى، وخصوصاً أن كثافة مصر السـكانية جعلتها دائماً المرشـحة لقيادة المنطقة بأسـرها في صراعها ضـد الغـزوات الغربية. ويلاحظ أن كلاًّ من المشروعين الفرنجي والصهيوني اكتشف أنه لحسم الصراع لصالحه، فلابد من ضرب مصر أو على الأقل تحييدها.

    والواقع أن الغزاة الاستيطانيين عادةً ما يسلكون طريق البحر، ثم تستقر الجيوب الاستيطانية على الساحل أو تحتفظ بركيزتها الأساسية فيه كما حدث في جنوب أفريقيا والجزائر. وكذلك، فإن الغزوتين الفرنجية والصهيونية سلكتا الطريق البحري نفسه واحتلتا أجزاء من نفس الشريط البحري، وإن كان الشريط الذي احتله الفرنجة أكثر طولاً من الشريط الذي احتله الصهاينة.

    أما من الناحية التاريخية، فيمكن القول بأن ثمة تشابهاً بين وَضْع العالمين العربي والإسلامي في القرن الحادي عشر ووضعهما في أواخر القرن التاسع عشر، فقد كانا في حالة انقسام وتراجع وتجزئة. فالخلافة الفاطمية في مصر كانت في حالة مواجهة مع الخلافة العباسية في العراق، وقد اقتسمتا فيما بينهما العالم الإسلامي. وكان النظامان العباسي والفاطمي يعانيان من الصراعات الداخلية والمؤامرات. وهما، في هذا، يشبهان النظام السياسي العربي المعاصر، المتجزئ، المنقسم على نفسه، المتصارع مع ذاته.

    والغزوتان الفرنجية والصهيونية تهدفان إلى حل بعض مشاكل المجتمع الغربي وتخفيف حدة تناقضاته. فالمجتمع الوسيط الغربي كان يخوض عملية بَعْث اقتصادي فتحت شهيته للاستيلاء على طرق التجارة المتجهة إلى الشرق. وهذا يشبه من بعض الوجوه، وإن كان بدرجة أقل، انفتاح شهية رجل أوربا الشره في القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم يهدأ له بال إلا بعد أن وقع العالم كله في قبضته. وقد استخدمت أوربا كلا المشروعين، الفرنجي والصهيوني، في التخلص مما أطلق عليه في القرن التاسع عشر الميلادي «الفائض البشري»، أي العناصر التي لم تستطع أن تحقق الحراك الاجتماعي داخل مجتمعاتها ولذا كانت تهدِّد السلام الاجتماعي ولم يكن هناك مفر من تصديرها للشرق حتى يحقق الغرب سلاماً اجتماعياً داخلياً. فالمشروع الفرنجي كان يهدف أيضاً إلى تخليص أوربا من فائضها البشري الذي كان يهدد سلامها الاجتماعي حسب تصوُّر البعض على الأقل.

    ومن نقط التشابه الأخرى أن المشروعين الفرنجي والصهيوني مشروعان استعماريان من النوع الاستيطاني الإحلالي. فالمشروع الفرنجي كان يهدف إلى تكوين جيوب بشرية غربية وممالك فرنجية تدين بالولاء الكامل للعالم الغربي. ولذا، لم تأت الجيوش وحسب، وإنما أتى معها العنصر البشري الغربي المسيحي ليحل محل العنصر البشري العربي الإسلامي. وهو في هذا لا يختلف عن المشروع الصهيوني إلا في بعض التفاصيل. فغزو فلسطين تم أولاً على يد القوات البريطانية، ثم حَضَر المستوطنون الصهاينة بعد ذلك بوصفهم عنصراً يقوم بالزراعة والقتال. وقد كانت المؤسسات الاقتصادية للفرنجة، مثلها مثل قرينتها الإسرائيلية، تتسم بطابع عسكري. كما أن التنظيم الاقتصادي التعاوني لم يكن مجهولاً لدى الفرنجة. ويمكن القول بأن دويلات الفرنجة، مثلها مثل الدولة الصهيونية، كانت ترسانات عسكرية في حالة تأهب دائم للدفاع عن النفس وللتوسع كلما سنحت لها الفرصة. ويُلاحَظ أن كلاًّ من ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية، بسبب طبيعتها الإحلالية، خلقت مشكلة لاجئين. كما يُلاحَظ أن هؤلاء اللاجئين تحوَّلوا إلى وقود جنَّد سكان المنطقة ضد الدولة القلعة .

    رد

  12. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:16:46

    الصهيونية الغربية
    Western Zionism
    «الصهيونية الغربية» مصطلح قمنا بسكه لنشير به إلى الحركة الصهيونية لنبين أنها حركة ليست عالمية وإنما حركة غربية تضرب بجذورها في التشكيل الحضاري والسياسي والغربي. والصهيونية الغربية تَصدُر عن الصيغتين الصهيونيتين الأساسية والشاملة، ويمكن أن نقسِّم الصهيونية الغربية إلى قسمين:

    أ) صهيونية غير اليهود: وهي صهيونية الذين توصلوا إلى الصيغة الصهيونية الأساسية وهم ينظرون لليهود باعتبارهم مادة تُنقَل، ويطلق عليها البعض «صهيونية الأغيار»، وإن كانت ديباجتها مسيحية فإنهم يطلقون عليها «صهيونية مسيحية».

    ب) صهيونية اليهود في الغرب: وهي صهيونية اليهود الذين تبنوا الصيغة الصهيونية الأساسية. وهذه نقسمها إلى صهيونية يهود غرب أوربا التوطينية وصهيونية يهود شرق أوربا الاستيطانية. والصهيونية الأولى قد تنتمي من الناحية البنيوية إلى صهيونية غير اليهود، فهي تنظر إليهم من الخارج.

    وإذا كان ثمة فارق بين صهيونية غير اليهود وصهيونية اليهود، فهو يكمن في المنظور والديباجات ولا ينصرف قط إلى الصيغة الأساسية نفسها، فاليهود بالنسبة إلى الصهاينة اليهود وغير اليهود شعب عضوي منبوذ من أوربا يجب أن يُنقَل خارجها ليُوظَّف لصالحها. وبينما ينظر الصهاينة غير اليهود إلى اليهود من الخارج باعتبارهم مجرد مادة بشرية تُوظَّف لصالح الغرب (أي على أنهم مجرد موضوع أو وسيلة لا قيمة لها في حد ذاتها)، فإن الصهاينة اليهود ينظرون إلى اليهود من الداخل باعتبارهم شيئاً مقدَّساً، أي أنهم يهوِّدون الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة من خلال إسقاط مصطلحات الحلولية الكمونية اليهودية عليها والعودة إلى الثالوث الحلولي: شعب ـ أرض ـ قوة ما (الإله ـ روح الشعب ـ التوراة والتراث) تسري في العنصرين وتحل فيهما وتربط بينهما.

    وإذا كان الشعب اليهودي مجرد وسيلة (كما يرى الصهاينة غير اليهود)، فهو من منظور الصهاينة اليهود وسيلة مهمة تُوظَّف في إطار كوني أو تاريخي ضخم بسبب مركزية الشعب اليهودي. ولنا أن نلاحظ أن كثيراً من الصهاينة غير اليهود قد تَقبَّلوا الرؤية الحلولية الكمونية اليهـودية وأن كثـيراً من الصـهاينة اليهـود يقبلون الرؤية النفعية، وأصبح من المألوف أن تمتزج الرؤية الحلولية بالرؤية المادية النفعية، وهذا ممكن في إطار الحضارة الغربية العلمانية الحديثة حيث يَحلُّ المطلق في المادة ويصبح من الممكن (من خلال الصيغة الهيجلية) التعبير عن الأمور المادية بطريقة روحية وعن الأمور الروحية بطريقة مادية. وثمرة هذا المزج هو النظر إلى فلسطين باعتبارها أرض الميعاد وباعتبارها كذلك موقعاً ذا أهمية اقتصادية وإستراتيجية بالغة، وإلى الشعب اليهودي باعتباره شعباً مختاراً يقف في مركز الكون، حجر الزاوية في عملية الخلاص، وفي الوقت نفسه باعتباره مادة استيطانية تخدم الحضارة الغربية. وإسرائيل هنا هي أداة الإله الطيعة، وهي في الوقت نفسه العميل المطيع للحضارة الغربية.

    رد

  13. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:17:09

    صهيونية الأغيـار
    Gentile Zionism
    «صهيونية الأغيار» ترجمة لمصطلح «جنتايل زايونيزم Gentile Zionism»، وهو مصطلح شائع في اللغات الأوربية يشير إلى غير اليهود الذين يتبنون الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ونحن نفضل استخدام مصطلح «صهيونية غربية»، أو «صهيونية» فقط، بمعنى «صهيونية غربية»، ونشير إلى «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» وإلى «صهيونية غير اليهود العلمانية» بمعنى أنها صهيونية غربية يتبناها بعض مواطني العالم الغربي ويدافعون عنها، إما من منظور مسيحي أو من منظور علماني.

    رد

  14. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:17:43

    الصهيونية المسيحية
    Christian Zionism
    «الصهيونية المسيحية» مصطلح انتشر في اللغات الأوربية وتسلَّل منها إلى اللغة العربية، حيث تتم ترجمة كل المصطلحات بأمانة شديدة وتبعية أشد دون إدراك مضامين المصطلح، ومن ثم فإننا لا نعرف إن كان هذا المصطلح يعبِّر عن موقفنا بالفعل وعن رؤيتنا للظاهرة أم لا. والواقع أن مصطلح «الصهيونية المسيحية» يضفي على الصهيونية صبغة عالمية تربطها بالمسيحية ككل، وهو أمر مخالف تماماً للواقع، إذ ليس هناك صهيونية مسيحية في الشرق. بل إن أوائل المعادين للصهيونية بين عرب فلسطين كانوا من العرب المسيحيين، وأول مفكر عربي تنبأ بأبعاد الصراع العربي ـ الصهيوني وبمدى عمقه هو المفكر المسيحي (اللبناني الأصل الفلسطيني الإقامة) نجيب عازوري. كما أن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تعارضان الصهيونية على أساس عقائدي ديني مسيحي. وإن حدث تقارب ما (كما هو الحال مع الفاتيكان)، فإن ذلك يتم مع دولة إسرائيل ولاعتبارات عملية خارجة عن الإطار الديني العقائدي إلى حدٍّ كبير. بل هناك في الغرب المسيحي البروتستانتي عشرات من المفكرين المسيحيين الذين يرفضون الصهيونية على أساس ديني مسيحي أيضاً. ولذا، فإن مصطلح «الصهيونية المسيحية» غير علمي نظراً لعموميته ومطلقيته. ومن هنا، فإن الحديث يجري هنا، في هذه الموسوعة، عن «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية»، فهي صهيونية غير مسيحية بأية حال، بل صهيونية استمدت ديباجتها (عن طريق الحذف والانتقاء) من التراث المسيحي دون الالتزام بهذا التراث بكل قيمه وأبعاده، ودون استعداد منها لأن يُحكَم عليها من منظوره الأخلاقي (ويمكنها أن تستخدم ديباجات إلحادية دون أن يتغيَّر مضمونها أو بنيتها الفكرية الأساسية). وفي تصوُّرنا أن هذا هو الفارق بين أية عقيدة دينية وأية عقيدة علمانية، فالمؤمن بعقيدة دينية يؤمن بمجموعة من القيم المطلقة المتجاوزة لإرادته (فهي ليست من إبداعه ولا من إبداع غيره من البشر)، ومن ثم يمكن تقييمه وتقييم سلوكه من منظور هذه القيم. أما العقيدة العلمانية، فهي مجموعة من القيم النسبية المتغيرة، ولا يمكن أن يُحـاكَم الإنسـان العلمـاني من منظورها إذ بوسعه أن يرفضها ويتنكر لها ويعدِّلها بما يتفق مع مواقفه المتغيِّرة واحتياجاته المتطورة وأهوائه المتجددة ورغباته التي لا تنتهي.

    رد

  15. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:18:09

    الصهـيونية ذات الديباجـة المسـيحية
    Zionism and Christian Apologetics
    «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» هي دعوة انتشرت في بعض الأوساط البروتستانتية المتطرفة لإعادة اليهود إلى فلسطين. وتستند هذه الدعوة إلى العقيدة الألفية الاسترجاعية التي ترى أن العودة شرط لتحقيق الخلاص، وهي تضم داخلها هذا المركب الغريب من حب اليهود الذي هو في واقع الأمر كره عميق لهم، تماماً مثل الصيغة الصهيونية الأسـاسـية: شعب عضوي منبوذ نافع يُنقَل خارج أوربا ليُوظَّف لصالحها.

    وأفكار الصهيونية ذات الديباجة المسيحية جزء لا يتجزأ من فكر الإصلاح الديني (وخصوصاً في أشكاله المتطرفة) برفضه التفسير المجازي للكتاب المقدَّس وفتحه الباب على مصراعيه لفكرة الخلاص الفردي خارج الكنيسة وللتفسير الفردي للنصوص المقدَّسة، بحيث أصبح المسيحي هو نفسه الكنيسة والكتاب المقدَّس، يفرض عليهما ما يشاء من قيم ورؤى، وهو ما يعبِّر عن تَصاعُد معدلات الحلول والعلمنة وانتشار ما نسميه «الرؤية المعرفية الإمبريالية». وقد انتشر الفكر الصهيوني ذو الديباجات المسيحية في أواخر القرن السادس عشر؛ عصر الثورة العلمانية الشاملة والثورة التجارية والحركة الاستيطانية الغربية ونشوء الرأسماليات الأوربية الباحثة عن مصادر الثروات والمواد الخام وعن أسواق لتصريف سلعها. وكانت أهم مراكز الصهيونية ذات الديباجة المسيحية إنجلترا بعد أن تحوَّلت عن الكاثوليكية ونفضت النفوذ الإسباني عنها وأصبحت واحدة من أهم القوى الاستعمارية (ومع هذا، يُلاحَظ أن إنجلترا لم يكن فيها يهود تقريباً).

    ويمكننا هنا أن نذكر بعض المفكرين الصهاينة، مثل توماس برايتمان وسير هنري فنش، الذين طرحوا تفسيراً حرفياً للعهد القديم وطالبوا بعودة اليهود إلى فلسطين. كما يمكن الإشارة إلى فيليب دي لانجالري (الفرنسي). وقد ظهرت عشرات المقالات التي تعالج هذا الموضوع وتتخذ موقفاً مماثلاً. وزاد هذا الموقف عمقاً باستيلاء المتطهرين (البيوريتان) على الحكم فكتب إنجليزيان بيوريتانيان نداء يطلبان فيه إعادة اليهود لإنجلترا وذلك حتى يتشتَّتوا في كل بقاع الأرض. فالشتات الكامل ـ حسب الأسطورة ـ هو شرط عودتهم لأرضهم، على أن تكون عودتهم على “سفن إنجليزية” (ولنتذكر هنا قانون الملاحة المركنتالي، الصادر عام 1651، الذي أصدرته حكومة كرومويل والذي تم بمقتضاه اسـتبعاد السـفن الهولندية من حَمْل التجارة البريطانية، ولذا أصبح حَمْل سلع من أفريقيا أو آسيا غير ممكن إلا على سفن إنجليزية).

    وتُعَدُّ هذه أول مرة في تاريخ العالم المسيحي التي يطرح فيها بشر مشروعاً بشرياً لإنجاز ما كان يُعتقَد حتى ذلك الوقت أنه أمر سيتم بتَدخُّل العناية الإلهية. وقد أدلى كرومويل بدلوه فدافع عن عودة اليهود لإنجلترا بسبب نَفْعهم وإمكانية استخدامهم كجواسيس له. ويُلاحَظ أن الصيغة الصهيونية الأساسية هي النموذج الأساسي الكامن في كل هذه الكتابات.

    ويُلاحَظ أن الصهيونية ذات الديباجة المسيحية تأخذ شكلاً دينياً استرجاعياً صريحاً وشكلاً تبشيرياً بين اليهود، وهي تنظر لليهودية من الخارج تماماً، فاليهود لا يزالون مجرد أداة للخلاص، وهم قتلة المسيح الذين يجب تنصيرهم وهدايتهم. ودعاة الصهيونية ذات الديباجة المسيحية شخصيات ليست سوية تماماً، معظمهم بعيدون عن مركز صناعة القرار. ومع هذا، يُلاحَظ أن الأبواب كانت دائماً مفتوحة أمامهم.

    وقد قامت جمعيات مسيحية تبشيرية عديدة مهمتها نشر المسيحية بين اليهود وهدايتهم واسترجاعهم إلى فلسطين إعداداً للخلاص. وأهم جمعية صهيونية مسيحية هي جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود الإنجليز ويهود الدولة العثمانية (1809)، وكان يشـار إليهـا على أنها جمـعية اليـهود («جوز سوسياتي Jews’ Society»). كما تم تأسيس جمعية التبشير الكنسية التي ازدهرت إلى درجة أن ميزانيتها بلغت 26ألف جنيه عام 1850، وكان يتبعها 32 فرعاً في لندن والقدس وغيرهما من المدن، وأصبحت المنبر الأساسي للصهاينة من المسيحيين مثل لورد شافتسبري السابع.

    ومع تَصاعُد معدلات العلمنة وتزايد النزعة الرومانسية (الحلولية العضوية)، بدأت الديباجات الدينية تبهت بالتدريج وبدأت تحل محلها ديباجات علمانية عقلانية نفعية تدور في إطار مفهوم الشعب العضوي المنبوذ مجرداً من كل الديباجات المسيحية. ومع ظهور محمد علي في مصر، وبداية التفكير في توظيف الدولة العثمانية كي تصبح سداً ضد الزحف الروسي الأرثوذكسي أو في اقتسامها، أصبحت الصهيونية ذات الديباجة المسيحية هامشية (رغم شعبيتها) إذ نجد أن أعضاء النخبة الحاكمة يستخدمون الصيغة الصهيونية الأساسية مع ديباجات نفعية علمانية (صهيونية غير اليهود).

    ولا يعني ظهور الصهيونية ذات الديباجة الرومانسية العضوية أو العلمانية العقلية (المادية الشاملة) أن الصهيونية ذات الديباجة المسيحية الواضحة اختفت أو حتى توارت. فالعكس هو الصحيح، إذ أن هذه الديباجة استمرت في التمتع بذيوع لا تعادله أية ديباجة أخرى، رغم تزايد علمنة المجتمع الغربي، بل إن النزعة الرومانسية قد أعطتها حياة جديدة وزادتها حيوية ودينامية. ويتضح ذلك في أن القرن التاسع عشر شهد بعثاً مسيحياً متمثلاً في الحركة الإنجيلية (أي المبشرة بالإنجيل) التي كانت تهدف إلى بَعْث القيم المسيحية بين صفوف الطبقة العاملة والفقراء والتبشير بين اليهود. كما يتضح في استمرار كثير من الصهاينة غير اليهود (العلمانيين) في استخدام ديباجات مسيحية. بل يمكن القول بأن الديباجة الأكثر شيوعاً مزيج من الديباجتين العلمانية النفعية والمسيحية كما هو الحال مع شافتسبري وبلفور.

    رد

  16. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:18:40

    الأحـــــلام والعقائـــــد الألفيـــــة
    Millenarianist Dreams and Doctrines
    «الألفية» ترجمة لكلمة «ميلينيريانزم» الإنجليزية المأخوذة من الكلمة اللاتينية «ميلينياروس» ومعناها «تحتوي على ألف». وثمة نزوع إنساني عام لفرض نظام عام على أحداث التاريخ، وهو عادةً نظام رياضي هندسـي صـارم. ومن ثم، فقد ظهر الإيمـان في كثير من الحضارات بأن العالم يشهد، في نهاية كل ألف من السنين، انتهاء دورة زمنية، وتصاحب هذه النهاية عادةً أحداث ضخمة. بل تذهب هذه الرؤية إلى أن التاريخ كله سيكون في نهاية ألف معينة. والفكرة الألفية متواترة في كثير من الحضارات. ويُقال إن حروب الفرنجة كانت نتيجة تصاعُد الحمى الألفية. وقد كتب الشاعر الأيرلندي وليام بتلريتس في نهاية القرن التاسع عشر قصائد ذات طابع ألفي. ولعل آراء فوكوياما (الموظف بوزارة الخارجية الأمريكية) عن نهاية التاريخ، ذات طابع ألفي هي الأخرى (مع انتهاء القرن العشرين، أي في نهاية الألف الثانية بعد الميلاد). كما أن العراف نوستراداموس من قبله وضع مخططاً يتنبأ فيه بنهاية التاريخ في إحدى الدورات الألفية. وللعقيدة الألفية جذور شعبية في العادة، تماماً مثل النزعات المشيحانية المختلفة التي تعبِّر عن تزايد معدلات الحلولية وضيق بالحدود وعن نفاد صبر بشأن العملية التاريخية وبالخلاص التدريجي.

    والعقيدة الألفية تعود جذورها إلى اليهودية، ولكنها أصبحت فكرة مركزية في المسيحية البروتستانتية إذ يؤمن كثير من المسيحيين البروتستانت بأنه حينما يعود المسيح المخلِّص (أو الماشيَّح حسب الرؤية اليهودية) (الذي يُشار إليه فيها بـ «الملك الألفي») سيحكم العالم (باعتباره الملك المقدَّس) هو والقديسون لمدة ألف عام يشار إليها أحياناً باسم «أيام الماشيَّح» أو «أيام المسيح»، وهي فترة سيسود فيها السلام والعدل في عالم التاريخ والطبيعة وفي مجتمع الإنسان والحيوان.

    وعقيدة الملك المقدَّس هذه لم يأت لها أي ذكر في العهد القديم ويبدو أنها مجرد صدى في الوجدان العبراني لمؤسـسة الملكية المقدَّسـة العبرانية. وما حدث هو أن مؤسسة الملكية المقدَّسة اختفت مع انهيار الدويلات العبرانية ولم تتم استعادتها حتى بعد عودة اليهود بأمر قورش الفارسي. فأسقط الوجدان العبراني فكرة الملك المقدَّس على المستقبل أصبحت جزءاً من الأفكار الأخروية (وتتحدث جماعة قمران عن الزوج المشيحاني): الماشيَّح بن هارون الكهنوتي والماشيَّح بن داود الملكي، ثم ظهر فيما بعد الماشيَّح بن يوسف والماشيَّح بن داود.

    وقد ظهرت العقيدة الألفية في كتابات معلمي المشناه (تنائيم) وفي الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا). بل إن كتب الرؤى (أبوكاليبس)، ومعظم الأفكار الأخروية، والكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا)، والأحلام الأخروية، وسائر الأساطير الخاصة بآخر الأيام ونهاية الزمان، تدور جميعاً حول هذه العقيدة. وتظهر العقيدة الألفية في العهد الجديد في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي الذي يشبه سفر دانيال في كثير من الوجوه والذي يدور حول عودة المسيح الثانية وحُكْمه العالم لمدة ألف عام. والنص، مثل كل كتب الرؤى، مركب مضطرب تنثال فيه صور الحشر الأخروية وتتداخل. والنص يتحدث عن تقييد الشيطان ثم حكم المسيح للعالم مع قديسيه لفترة تمتد لمدة ألف عام (ويبدو أن الألف عام هذه لا علاقة لها بيوم البعث أو يوم القيامة أو الفردوس السماوي إذ هي نوع من الفردوس الأرضي الذي سيتحقق الآن وهنا قبل يوم الحساب). بعد ذلك يُطلَق الشيطان من سجنه لهجمة أخيرة، ولعله عند هذه اللحظة يظهر المسيح الدجال (بالإنجليزية: «أنتي كرايست anti-Christ» وهي كلمة تعني حرفياً: ضد المسيح) فتدور المعركة الفاصلة النهائية. ويُلاحَظ أن المسيح الذي يعود هذه المرة ليس هو مسيح الأناجيل المعروف لدينا الذي يشيح بوجهه عن مملكة الأرض والذي يعرف أنه سيُصلَب فداءً للبشر، وإنما هو مسيح عسكري يجيئ راكباً حصاناً أبيض و”عيناه كلهيب نار” و”متسربل بثوب مغموس بدم” و”من فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم، وهو سيرعاهم بعصاً من حديد” (رؤيا يوحنا 19/11 ـ 16). فهو إذن مسيح جدير بالرؤية المعرفية الإمبريالية، يشبه جيوش أوربا التي داست الأرض ولوثت البيئة وثقبت الأوزون. وهو مسيح سيقتحم التاريخ عنوة ويدخل المعركة النهائية، معركة هرمجدون، ضد ملوك الأرض الذين يساعدهم الشيطان، فيُلحق بهم جميعاً الهزيمة النكراء. ثم يبدأ المسيح حكمه (الثاني) والنهائي، ويبعث كل البشر، المحسن منهم والسيِّئ (إذ يبدو أنه في حكمه الأول لم يبعث سوى القديسين) وذلك لمحاسبتهم ومجازاتهم. وينتهي الزمان ويبدأ حكم مدينة الإله وتختفي مدينة الأرض. وتختلط بكل هذا أقوال عن يأجوج ومأجوج وعلامات الساعة والنهاية، كما أن هناك العديد من الروايات الأخرى التي لا تقل اختلاطاً عن تلك التي لخصناها.

    وأهـم النقـط التي يدور حـولها الخـلاف بين الروايات المختلفة هو: متى تكون النهـاية النهـائية، هل تكــون بعد عودة المسيح أم قبلها؟ وما علامات هذه العودة الثانية، أهي مزيد من الشر والتدهور أم الخير والتقدم؟ ويُقسَّم الألفيون، أي المؤمنون بالعقيدة الألفية، إلى قسمين حسب رؤيتهم لزمن ظهور المملكة الألفية:

    أ) أنصار ما قبل الألف: وهؤلاء يؤمنون بأن الملك الألفي أي المسيح سيأتي فجأة ويبدأ مملكة الألف عام التي سيسود فيها العدل والسلام، وهذه الرؤية هي الأكثر شيوعاً. وعلامة النهاية عند هؤلاء تكون عادةً انهيار الحضارة وتدهورها. وعندما ترد كلمة « ألفية» دون إضافات أو تحفظات فهي تشير عادةً إلى العقيدة ما قبل الألفية.

    ب) أنصار ما بعد الألف: وهؤلاء يرون أن الملك الألفي سيأتي بعد الألف عام التي سيسود فيها السلام والمحبة وتعم فيها النعمة بسبب أن المسيحيين سيتخذون موقفاً أخلاقياً ويطيعون إلههم. وستكون العودة الثانية للمسيح هي ذروة هذه المرحلة، فهو سيأتي ليبعث الموتى ويحاسبهم على أفعالهم، وهذا هو يوم القيامة أو الحساب الأخير. وعلامة النهاية هنا هي شيوع السلام والمحبة والرخاء في الأرض.

    والخلافات هنا عميقة وبنيوية، فما قبل الألفيين يرون أن التغير فجائي ناجم عن تَدخُّل أو تجسُّد إلهي في التاريخ دون محاولة من جانب البشر، فهم عنصر سلبي في الدراما الكونية، وسيصاحب تَدخُّل الخالق مذابح وحروب. أما ما بعد الألفيين، فيرون أن التغيُّر تدريجي، وأنه ناجم عن أن المسيحيين سيقومون بتغيير أنفسهم وتحسين دنياهم. والذروة التي يصل إليها التاريخ تدريجياً هي إذن تعبير عن فعل إنساني أخلاقي وليس مجرد تجسُّد فجائي للإله في التاريخ. فالإنسان ليـس عنصراً سـلبياً في الدراما الكونية، بل هو فاعل لا يخضع للحتميات. وقد تزاوجت هذه الرؤية، فيما بعد، مع فكر عصر الاستنارة وعقيدة التقدم، وتمت علمنتها بحيث أصبح تقدُّم المسيحيين التدريجي هو التقدم التدريجي للعلوم، وأصبحت عودة المسيح (والحكم الألفي) هي هذه أو تلك النقطة في التاريخ. والواقع أن هذا الفكر يصل إلى قمته في منظومة هيجل، بل في كل المنظومات العلمانية الهيجلية.

    رد

  17. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:19:25

    العقيدة الاسترجاعية
    Restorationism
    «العقيدة الاسترجاعية» هي الفكرة الدينية التي تذهب إلى أنه كيما يتحقق العصر الألفي، وكيما تبدأ الألف السعيدة التي يحكم فيها المسيح (الملك الألفي)، لابد أن يتم استرجاع اليهود إلى فلسطين تمهيداً لمجيء المسيح. ومن هنا، فإن العقيدة الاسترجاعية هي مركز وعصب العقيدة الألفية. ويرى الاسترجاعيون أن عودة اليهود إلى فلسطين هي بشرى الألف عام السعيدة، وأن الفردوس الأرضي الألفي لن يتحقق إلا بهذه العودة. كما يرون أن اليهود هم شعب الله المختار القديم أو الأول (باعتبار أن المسيحيين هم شعب الله المختار الجديد أو الثاني). ولذا، فإن أرض فلسطين هي أرضهم التي وعدهم الإله بها، ووعود الرب لا تسـقط حتى وإن خرج الشـعب القـديم عن الطريق ورفض المسيح (وصلبه). ولذا، فإن كل من يقف في وجه هذه العودة يُعتبَر من أعداء الإله ويقف ضد الخلاص المسيحي، فأعداء اليهود هم أعداء الإله .

    ويُلاحَظ هنا أن الفكر الحلولي اليهودي يجعل اختيار الإله لليهود ليس منوطاً بفعلهم الخير وتحاشيهم الشر، فهي مسألة عضوية حتمية تتجاوز الخير والشر. كما أن جَعْل الخلاص مسألة مرتبطة باليهود، ومَنْح اليهود مركزية في رؤيا الخلاص، هو جوهر القبَّالاه اللوريانية التي تجعل خلاص الإله من خلاص اليهود، إذ يستعيد ذاته المبعثرة من خلالهم.

    ومن الواضح أن العقيدة الاسترجاعية، شأنها شأن العقيدة الألفية، تفترض استمراراً كاملاً ووحدة عضوية بين اليهود في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن ثم فهي تنكر التاريخ تماماً. والاسترجاعيون عادةً حرفيون في تفسير العهد القديم، وهذا أمر أساسي لتأكيد الاستمرار، فهم لا يرون إلا دالاً واحداً ثابتاً مرتبطاً بمدلول واحد ثابت لا يتغيَّر.

    ولكن هذا التقديس لليهود يُضمر كرهاً عميقاً لهم ورفضاً شاملاً لهم ولوجودهم، ذلك أن بنية العقيدة الاسترجاعية هي نفسها بنية فكرة الشعب العضوي المنبوذ، شعب مختار متماسك عضوي يرفض الاندماج في شعب عضوي آخر، ولذا لابد من نبذه! ويمكن أن نلخص هذا الكره وذلك الرفض في العناصر التالية:

    1 ـ يذهب الاسترجاعيون إلى أن اليهود أنكروا المسيح وصلبوه، وأن عملية استرجاعهم إن هي إلا جزء من عملية تصحيح لهذا الخلل التاريخي وجزء من عملية تطهيرهم من آثامهم. فاليهود ليسوا مركز الخلاص بل هم مركز الخلل وسببه. والواقع أنهم مركز الخلاص لأنهم بإنكارهم المسيح أصبحوا مركز الخلل وسببه الأساسي (وهذا هو المعادل الديني لفكرة الشعب العضوي المنبوذ). والخلاص لا يمكن أن يتم إلا بتطهير مركز الخطيئة. ولعل هذا التركيز على أن اليهود أصل الخطيئة يُفسِّر أن المسيح الدجال سيكون يهودياً (من سوريا)، وأنه هو الذي سيقود ملوك الأرض ضد المسيح في المعركة الأخيرة (هرمجدون).

    2 ـ تذهب العقائد الألفية والاسترجاعية إلى أن عملية الخلاص النهائي ستصاحبها معارك ومذابح تصل ذروتها في معركة واحدة أخيرة (هرمجدون)، وهي معارك سيروح ضحيتها ثلثا يهود العالم وستخرب أورشليم (القدس). بل إنه كلما ازداد العنف ازدادت لحظة النهاية اقتراباً، فكأن التعجيل بالنهاية لا يتم هنا من خلال فعل أخلاقي يقوم به المسيحيون وإنما من خلال تقديم قربان مادي جسدي للإله (هولوكوست) يُشوَى بأكمله. بل إن أبعاد هذه المذبحة ستكون أوسع مدىً من المحرقة النازية، فكأن العقيدة الاسترجاعية هي عكس العقيدة المسيحية. ففي العقيدة المسيحية، يأتي المسيح ويُنزَف دمه ويُصلَب ويُهزَم، فهو قربان يُقدِّمه الإله فداءً للبشر بأسرهم، قربان لا حاجة بعده إلى قرابين. أما العقيدة الاسترجاعية فتذهب إلى أن المسيح قائد عسكري يدخل المعارك ويثخن في الأعداء ثم ينتصر. واليهود هم الذين سينزفون، وهم قربان الرب الذي لا حاجة بعده إلى قرابين، ولذلك فإن ذَبْحهم (أو صَلْبهم) يشير إلى النهاية الألفية السعيدة. كما أن اليهود، حسب الرؤية المسيحية التقلـيدية، كانوا دعـاة القـومية، على حين أن المسيح هو داعية العالمية. أما هنا، فإن العكس هو الصحيح، فاليهود هم مركز خلاص العالم والمسيح هو القائد القومي الذي سيؤسس مملكته في صهيون.

    3 ـ انتهت حياة المسيح الأولى بإنكار اليهود له وصلبه، أما حياته الثانية فستنتهي بإعلان انتصاره وبالتدخل في آخر لحظة لإنقاذ البقية الباقية من اليهود (وإعادتهم إلى أرضهم)، فيخر اليهود أمام المسيح ويعترفون بألوهيته ويقابلونه باعتباره الماشيَّح المنتظَر ويتحولون إلى دعاة تبشير بالمسيحية ينشرون الإنجيل في العالم، أي أن المسيح سينجح في إقناع اليهود بما فشل في إقناعهم به أول مرة. وحينما يحدث ذلك، تكون الدائرة الحلولية قد اكتملت وتمت هداية العالم بأسره.

    4 ـ العقيدة الاسترجاعية عقيدة تُحوسل اليهود تماماً، أي تُحوِّلهم إلى وسيلة أو أداة نافعة وأساسية لخلاص المسيحيين ولكنها لا قيمة لها في حد ذاتها، فهم يستمدون قيمتهم من مقدار أدائهم لوظيفتهم ومقدار تعجيلهم بعملية الخلاص المسيحية.

    فبنية الصيغة الاسترجاعية (شعب عضوي منبوذ يمكن توظيفه) هي نفسها الصيغة الصهيونية الأساسية، وعلى هذا فإن الفكر الصهيوني في شكله الديني والعلماني فكر استرجاعي.

    رد

  18. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:20:21

    هـرمجـــدون
    Armageddon
    «هرمجدون» (أو: آرمجدون) كلمة مكونة من كلمتين: «هار» بمعنى «تل» و«مجدو» اسم مدينة في فلسطين («مجيدو») والتي تقع بالقرب منها عدة جبال ذات أهمية إستراتيجية، وهو ما جعل المدينة حلبة لكثير من المعارك العسكرية في العالم القديم. وهرمجدون هي الموضع الذي ستجري فيه المعركة الفاصلة والنهائية بين ملوك الأرض تحت قيادة الشيطان (قوى الشر) ضد القوى التابعة للإله (قوى الخير) في نهاية التاريخ، وسيشترك فيها المسيح الدجال حيث سيُكتَب النصر في النهاية لقوى الخير وستعود الكنيسة لتحكم وتسود مع المسيح على الأرض لمدة ألف سنة، وبعدها ستأتي السماوات الجديدة والأرض الجديدة والخلود. وقد ورد ذكر هرمجدون مرة واحدة في العهد الجديد (رؤيا يوحنا اللاهـوتي 16/6 “فجَمَعـهم إلى الموضع الذي يُدعَى بالعـبرانية هرمجدون”). ويرتبط كل هذا بعودة اليهود إلى أرض الميعــاد مرة أخرى، فهذا شرط الخلاص (وإن كان يرتبط أيضاً بهلاك أعداد كبيرة منهم تبلغ ثلثي يهود العالم). وهرمجدون هي الصورة المجازية الأساسية في العقائد الألفية الاسترجاعية البروتستانتية. وهي تتواتر في الخطاب الغربي السياسي الديني (خصوصاً في الأوساط البروتستانتية المتطرفة واليهودية الصهيونية) لوصف المعارك بين العرب والصهيونية، أو لوصف أي صراع ينشب في الشرق الأوسط، أو حتى في أية بقعة في العالم، كما يتم إدراك الصرع العربي الإسرائيلي من خلال هذه الصورة المجازية (هرمجدون). وكثيراً ما يشير بعض رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة إلى هذه الصورة المجازية في تصريحاتهم الرسمية. ولا يمكن الحديث هنا عن أي تأثير يهودي أو نفوذ للوبي الصهيوني، فمثل هذه المصطلحات المشيحانية متأصلة في الخطاب الديني البروتستانتي منذ عصر النهضة الغربية، وذلك نظراً لتصاعد معدلات العلمنة والحلولية والحرفية التي تصر على أن ترى كل التعبيرات والأحداث المجازية في العهدين القديم والجديد كنبوءات تاريخية لابد أن تتحقق بحذافيرها.

    رد

  19. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:20:59

    المسيح الدجال
    Anti-Christ
    «المسيح الدجال» هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية «أنتي كرايست» والتي تعني حرفياً «ضد المسيح». وعقيد المسيح الدجال عقيدة مسيحية أخروية ظهرت مع بدايات المسيحية، وزادت أهميتها مع الإصلاح الديني، وهي عقيدة صهيونية بصورة ملموسة إذ أنها تضع اليهود في مركز الدراما الكونية الخاصة بخلاص العالم، وهي أيضا عقيدة معادية لليهود إذ أن مركزيتهم نابعة من كونهم تجسيد للشر في التاريخ، ومن ثم فإن تنصُّرهم (ونهاية التاريخ) شرط أساسي للخلاص.

    وتذهب هذه العقيدة إلى أن المسيح الدجال شخصية كافرة قاسية طاغية، وهو ابن الشيطان (بل لعله هو نفسه الشيطان المتجسد). ومن علاماته أنه توجد في أقدامه مخالب بدلاً من الأصابع. أما أبوه، فيُصوَّر على هيئة طائر له أربعة أقدام ورأس ثور بقرون مدببة وشعر أسود كثيف.

    والمسيح الدجال ابن امرأة يهودية، وسيأتي من قبيلة دان (فاستناداً إلى نبوءة يعقوب، فإن دان سيكون ثعباناً في الطريق، واستناداً إلى كلمات إرميا فإن جيوش دان ستلتهم الأرض. كما أن الإصحاح السابع في رؤيا يوحنا لم يذكر قبيلة دان عندما ذكر القبائل العبرانية). ويتواتر الآن في الأوساط المسيحية الحرفية أن المسيح الدجال سيكون يهودياً من سوريا. ويُقال إن المسيح الدجال سيظهر في الشرق الأوسط في نهاية الأيام وهو العدو اللدود للمسيح وسيسبق ظهوره عدد من الدجالين، وأنه سيدَّعي أنه المسيح ويصدقه الكثيرون، وخصوصاً أنه قادر على الإتيان ببعض المعجزات (ولذا، فهو يسمَّى «قرد الإله» أي الذي سيقلد الإله كما تقلد القردة البشر) وسيطيعه الرعد وتحرس الشياطين له بعض كنوز الأرض (التي سيستخدمها في غواية البشر).

    وسيقوم الدجال ببناء الهيكل وسيهدم روما (مقر البابا) وسيُحيي الموتى وسيحكم الأرض مع الشيطان لمدة يُقال إنها ستصل إلى خمسين عاماً، وإن كان الرأي الأغلب أن فترة حكمه لا تتجاوز ثلاثة أعوام ونصفاً وسيساعده اليهود في كل أفعاله. وعندما يصل البؤس إلى منتهاه، سيتدخل الإله فتنفخ الملائكة في البوق معلنة حلول يوم القيامة وسينزل المسيح (عودة المسيح الثانية) لينقذ البقية الباقية الصالحة. وستدور معركة كونية هي معركة هرمجدون ويَلقَى ثُلثا اليهود حتفهم أثناءها. وسيعود إلياهو وإنوخ وسيأمر الدجال بقتلهم، ولكنهم قبل أن يلاقوا حتفهم سينصرون اليهود الذين سيقبلون المسيح باعتبارهم أفراداً (لا شعباً). وسيخرج من فم المسيح سيفٌ ذو حدين سيصرع به المسيح الدجال ويحكم العالم بالعدل لمدة ألف عام (أو إلى ما لا نهـاية) حيث ينتـشر السـلام والإنجـيل في العالم.

    وكثيراً ما كان الدجال يُقرَن بالماشيَّح الذي ينتظره اليهود. ويذهب الحرفيون إلى أن إنشاء دولة إسرائيل علامة على أن موعد عودة المسيح قد دنت ومن ثم لحظة هداية اليهود، كما يَقرن الوجدان البروتستانتي الدجال ببابا روما وبأية شخصية تصبح تجسيداً للآخر (دعاة الاستنارة ـ قيصر ألمانيا ـ لينين ـ هتلر ـ جمال عبد الناصر).

    وعقيدة الدجال هي عقيدة حلولية تُلغي الزمان وتُلغي المسافة التي تفصل بين الخالق والمخلوق، ثم تُلغي الآخر تماماً وتُخرجه من دائرة القداسة والتوبة والهداية. والآخر هنا هو اليهود، والدجال هو رمزهم.

    والعقيدة هي بلورة لكثير من جوانب الموقف الغربي من اليهود فالحضارة الغربية تضع اليهود (الشعب العضوي المقدَّس المنبوذ) في مركز الكون حيث يتم القضاء عليهم بطريقتين: إما عن طريق الإبادة (الهولوكوست) في معركة هرمجدون (أو في معسكرات الغاز والإبادة)، أو عن طريق التنصير (أو عمليات الاندماج المكثفة في الولايات المتحدة وغيرها: الهولوكوست الصامت

    رد

  20. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:22:41

    فرســان الهيــكل
    Knight Templars
    جمعية استيطانية صهيونية ذات ديباجة مسيحية. واشتقت الجمعية اسمها من جماعة فرسان الهيكل الأولى، وهم جماعة من الفرسان الرهبان ظهروا في فلسطين عام 1118 بعد وصول حملات الفرنجة لأرض الشام بما لا يزيد على عشرين عاماً، وكوَّنوا جماعة وظيفية قتالية استيطانية في العالم الإسلامي، وجماعة وظيفية مالية وسيطة في العالم الغربي. وقد كانت العلاقة بين العالم المسيحي في العصور الوسطى وجماعة فرسان الهيكل علاقة نفعية. وقد دخل الفرسان صراعاً مع كل من الكنيسة والسلطة الزمنية، لكن كلاًّ منهما تَحمَّل استقلالية الفرسان على مضض طالما كانت ثمة وظيفة لهم. وبانتفاء الغرض الذي قامت من أجله جماعة فرسان الهيكل، ومع فقدانها وظيفتها بعد سقوط عكا في يد المسلمين عام 1292، لم يَعُد هناك مجال للاستمرار في العلاقة فهجمت السلطة الزمنية (بتشجيع من الكنيسة) على الفرسان واتهمتهم بالهرطقة وقامت بتعذيبهم ومصادرة أموالهم وتشريدهم وقُتل رئيسهم جاك دي مولاي عام 1312 بأمر من فيليب الجميل ملك فرنسا وبمباركة من البابا كلمنت الخامس، واستولى فيليب الجميل على ثروة فرسان الهيكل وتمكَّن من إضعاف سلطة النبلاء وتقوية الدولة.

    وتعود جمعية فرسان الهيكل الحديثة إلى حركة الأتقياء التي ظهرت في ألمانيا في القرن السابع عشر كحركة إصلاحية في الكنيسة الإنجيلية أكدت دراسة الكتاب المقدَّس وأكدت الإلهام الديني المباشر والذاتي. وقد استمرت هذه الحركة حتى القرن 19 وتركزت حول تيوزوفن بنجل الذي بشَّر بقيام مملكة الرب وعودة المسيح إلى الأرض في أعقاب كوارث مريعة سببها الابتعاد عن الروح المسيحية. وتَوقَّع بنجل عودة المسيح عـام 1836 بعد ظهور المسـيح الدجال متمثلاً في شخص نابليون بونابرت. وعندما حلت مجاعة بمملكة فورتمبرج عام 1817، دعا بنجل أتباعه إلى الهجرة إلى الشرق، فهاجر آلاف الفلاحين من هذه المملكة إلى جنوب روسيا حيث رحب بهم قيصر روسيا ألكسندر الأول.

    وقد رأت مملكة فورتمبرج في هجرة مواطنيها خطراً يتهددها، ولذا لجـأت إلى إنشاء جمـعيات خاصـة للمـــتدينين ذات استقلال ذاتي. وكانت أولى تلك الجمعيات تحت رئاسة جوتليب هوفمان والد كريستوف هوفمان مؤسس جمعية الهيكل الألمانية، الذي وجد أن ازدياد نفوذ الاتجاهات الليبرالية والثورية في البرلمان القائم في فرانكفورت دليل قاطع على سيطرة الاتجاهات الشيطانية بسبب فشل الكنيسة الإنجيلية في رسالتها. ولذا، دعا هوفمان إلى إقامة كنيسة جديدة مستقلة، وساعده في هذا صديقاه جورج ديفيد هارديج وعمانويل باولوس.

    ومع اندلاع حرب القرم عام 1853، اعتقد هوفمان أن الوقت قد حان لإقامة مملكة الرب وسَلْخ أرض الميعاد في فلسطين عن الإمبراطورية العثمانية المتداعية وجَعْلها موطناً لشعب الله المختار تنفيذاً للوعود التوراتية. وقد فسَّر هوفمان هذه الوعود بأنها ليست لليهود ولكن للشعب المسيحي الإنجيلي.

    ومن ثم، شكَّل هوفمان جمعية تحت اسم «أصدقاء القدس» عام 1854 دعـت إلى اتخاذ الوسـائل والتـدابير لوضع مشــروعه موضع التنفيذ. وطرح هارديج فكرة السعي لدى البرلمان الألماني في فرانكفورت من أجل التأثير على السلطان العثماني للسماح للألمان باستيطان فلسطين واستعمارها من أجل إيجاد عمل للمتعطلين من الألمان، وكان شعاره هو “ينبغي إيجاد عمل للشعب الألماني” (أي أنه اكتشـف الحـل الاســتعماري لمشاكل أوربا، وهو تصديرها للشرق). وقد تبنت الجمعية اقتراح هارديج بالإجماع.

    وبناءً على ذلك، كتب هوفمان مشروع دستور للجمعية الجديدة أسماه «مشروع دستور شعب الله» وسُمِّيت الجمعية «جمعية تجميع شعب الإله في القدس». ثم قام هوفمان وهارديج برحلات عديدة في أوربا للدعوة لهذه الجمعية حيث لاقت دعوتهم بعض القبول وتبرعت بعض الأسر الثرية بالأموال لشراء الأراضي لتكون مواضع لتجميع شعب الإله قبل الانطلاق لاستعمار فلسطين. وقد أدَّت المجاعة التي أصابت فورتمبرج إلى انضمام العديد من الأنصار إلى الجمعية.

    ومع انتهاء حرب القرم عام 1856 وعدم انهيار الإمبراطورية العثمانية كما تَوقَّع هوفمان، شنت الكنيسة الإنجيلية حملة شديدة على الجمعيـة، الأمـر الذي أدَّى إلى تَقلُّص عـدد أعضـائها تدريجـياً.

    وقد دخل هوفمان وأنصاره، نتيجة هذا الهجوم الشرس، معركة كبرى مع الكنيسة الإنجيلية، وهو ما أدَّى إلى طردهم منها عام 1859. ولهذا، فقد أنشأوا طائفة دينية خاصة بهم دعاها هوفمان «الهيكل الروحي». وقد أدَّى انشقاق الجماعة إلى اشتداد الحملة الكنسية عليها الأمر الذي أدَّى إلى انفضاض الأتباع عنها. لكنها استطاعت أن تستمر وتحافظ على كينونتها، بفضل وجود أتباع كثيرين لها بين المهاجرين الألمان في أمريكا الشمالية وجنوب روسيا.

    رد

  21. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:23:09

    المــــــــــورمــــــــــــون
    (Mormons (Latter-Day Saints
    «المورمون» حركة دينية شبه مسيحية، مركزها الرئيسي مدينة سولت ليك في ولاية أوتاه، واسمها الحقيقي هو «كنيسة المسيح عيسى، قديس آخر الأيام». وهي حركة ذات طابع حلولي كموني واضح. وتوجد مجموعات متفرقة منفصلة من المورمون في مدينة إندبندانس في ولاية ميسوري ومدينة بيرليختون في ولاية ويسكونسين.

    والخلفية الاجتماعية والتاريخية لنشوء حركة المورمون مهمة لفهم عقائدهم، فقد بدأت في عشرينيات القرن الماضي وهي فترة توسُّع اقتصادي ضخم في الولايات المتحدة الأمر الذي خلق ردة فعل لدى ضحايا التقدم وتزايدت الدعوات الإنجيلية.

    وقد نشأ جوزيف سميث (1805 ـ 1844) مؤسس الحركة في أسرة تبحث عن الحراك الاجتماعي استقرت في نيويورك لهذا السبب. وفي هذا الجو الذي يتسم بالسيولة بدأ سميث بحثه عن الكنيسة الحقيقية أو الصحيحة. وفي ربيع 1820، في سن الرابعة عشرة، تَلقَّى وحياً من الرب من خلال ملاك يُدعَى موروني (ومن هنا التسمية التي اشتهروا بها) بألا ينضم لأيٍّ من الكنائس القائمة لأنها كلها “خاطئة”. ثم تَلقَّى وحياً آخر بأن الرب اختاره ليكون أداته لاستعادة الكنيسة الحقيقية أو الصحيحة بعد أن أفسدها أفراد لا عصمة لهم انحدروا إلى الشر والفساد. فقد هداه الملاك إلى أن يذهب إلى تل على مقربة من مزرعة أبويه حيث عثر على صحائف ذهبية فترجمها ونشرها عام 1830 تحت عنوان كتاب المورمون وهو التاريخ المقدَّس لثلاث قبائل هاجرت إلى أمريكا الشمالية (600 ق.م) أي قبل صول كولومبوس، وبعد حروب طويلة انقسمت القبائل إلى قسمين: النفايت (Nephite) واللامانايت (Lamanite) وهم أسلاف الهنود الحمر. وحسبما جاء في كتاب المورمون زار المسيح أمريكا بعد صلبه وعلمهم الإنجيل وأسَّس كنيسة لإقناع اليهود والأغيار أن عيسى هو المسيح، الإله الخالد الذي يكشف عن نفسه لكـل الأمم (وهكـذا تصـبح الولايات المتحـدة موضـع الحلول والكمون).

    وقد أعلن سميث أن كتاب المورمون هو كتاب مُكمِّل للإنجيل وليس بديلاً له. ومع هذا فإن المورمون ينظرون إليه باعتباره كتاباً مقدَّساً.

    وقد كان سميث يرى أن الكتب المقدَّسة ليست كافية في حد ذاتها لاستعادة الحقيقة المطلقة فالجنس البشري يحتاج إلى سلطة إلهية (شرعية إلهية) وقد اختفت مثل هذه السلطة بعد الأيام الأولى للمسيحية. ولكنها ظهرت مرة أخرى عام 1829 في شـخص سـميث ومسـاعده أوليفر كودري. وهكذا عادت الكنيسة الحقيقية الصحيحة التي يقودها مجموعة من الكهنة ذوي الصلاحية الإلهية الذين يتمتعون بقدر عال من العصمة. وفي عام 1833 طوَّر سميث العقيدة المورمونية بعد نشر كتاب الوصايا والعقائد والمواثيق وقد طلب من القديسين (أعضاء الكنيسة) أن يتجمعوا في جماعات وبنوا هيكلاً هو المركز الحرفي والمجازي المقدَّس للجماعة. وحسب ادعاءات الجماعة ظهر عيسى وموسى وإلياس وإلياهو لسميث وكوردي في المعبد عام 1836 وبدأ تأسيس مملكة الرب التي لا تُفرِّق بين المقدَّس والنسبي ويحكمها الكهنة (تماماً كما هو الحال في مملكة يسرائيل القديمة) وقد حقق سميث نجاحات كثيرة في حركته التبشيرية وفكَّر في ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية.

    وبدأت تتبلور بعض العقائد التي تبتعد في جوهرها عن المسيحية ومن هذه العقائد إيمان المورمون بأن الإله ليس ثالوثاً مقدَّساً (كما يؤمن المسيحيون) وإنما ثلاثة آلهة، وأن الإله الأب كان في يوم من الأيام إنساناً وصل إلى الألوهية. وكما يقول لورنزو سنو (أحد “أنبياء المورمون” عام 1901) و”كما هو الإنسان الآن، كان الإله يوماً، وكما هو الإله الآن سيصبح الإنسان”، وهي عبارة لا تختلف كثيراً عن عبارة فتشينو الهرمسي إن الإله قد أصبح إنساناً كي يصبـح الإنسـان إلهاً (ولذا فكـل من يتزوج زواجـاً توافـق عليه الكنيسة، سيصبح إلهاً في العالم الآخر) وكل من يتبع المورمونية في نهاية الأمر سيصبح هو الآخر إلهاً. ومن الواضح أن المنظومة المورمونية منظومة حلولية كمونية متطرفة لا تفرق بين الخالق والمخلوق. وهنا نجد ما سماه أحد الدارسين «ميتافيزيقا المادية»، أي عدم الاعتراف بالخلق من العدم، أي أن الإله خَلَق العالم من مادة قديمة (على عكس الديانات التوحيدية التي تصر دائماً على الإيمان بالخلق من العدم) وهم يؤمنون بنوع من الوجود الروحي قبل الميلاد (وليـس بتناسـخ الأرواح) إذ يوجد ما يُســمَّى الإنسان الأزلي أو الأول، وهو إنسان وُجد قبل الخلق كجزء من الخالق، بل إنه هو نفسه الخالق (تماماً كما هو الحال في النظم الغنوصية). وينقسم العالم الآخر إلى ثلاثة أقسام (كما هو الحال في الكاثوليكية) قسم أعلى يحتله المؤمنون والثاني لغير المؤمنين والثالث للشيطان وأتباعه. وأعضاء المورمون ممن يودون أن يدخل أسلافهم الجنة يمكنهم تعميدهم بأثر رجعي، ولذا يهتم المورمون بالسلالات وشجرة العائلة.

    ويُلاحَظ أن النزعة المشيحانية تحوي داخلها تيارين متناقضين: نزعة عميقة وواحدية معادية للحداثة ونزعة لا تقل عمقاً أو واحدية مؤيدة لها، وهو تناقض يوجد داخل المشيحانية المورمونية. ولكن هذا الصراع حُسم عام 1890 لصالح التحديث إذ أصدر الرئيس الثالث للجماعة (ويلفورد وودروف) مانفستو بمنع تعدُّد الزوجات إذ كان هذا يعني التخلي عن فكرة الكنيسة الصحيحة ودخول التيار الأمريكي الذي يقبل التعددية النسبية. وبدأ المورمون تأكيد عناصر أخرى هي مصدر للتماسك مثل عدم شرب الكحول والشاي والقهوة وارتداء أزياء معينة والابتعاد عن الممارسات الجنسية الإباحية، كما أكدوا الإيمان بالتقدم اللانهائي للإنسان (ونهاية التقدم أن يصبح الإنسان إلهاً). وهذه القيم هي عبارة عن بعث الأخلاقيات والقيم البروتستانتية التي هي عبارة عن زهد داخل الدنيا يساعد على الانضباط وتوحيد حياة الإنسان وتكثيف طاقتها وتوجيهها بشكل رشيد حتى يمكن غزو العالم، كل هذا يعني في واقع الأمر التكيف مع مرحلة الرأسمالية التنافسية في الولايات المتحدة.

    ورغم أن سميث كان يرى أن الولايات المتحدة موضع الكمون والحلول إلا أنه لم يكن يحصره فيها، فقد كان يرى أن فلسطين هي الأخرى موضع حلول وكمون ولذا كان يرى أن ثمة ضرورة لتجميع اليهود في فلسطين باعتبارها أرض إسرائيل، وذلك من أجل تحقيق الوعد للمؤمـنين الجـدد الذين يجب عليهم التجمُّع في أرض الميعاد الجديدة، مورمون في أمريكا ويهود في فلسطين. وقد كان اهتمام سـميث بفكرة عـودة اليهـود كبيراً لدرجة أنه أنشـأ مع أتباعه، عام 1836، مدرسة لتعليم اللغة العبرية بدون معلم لدراسة التوراة بلغتها الأصلية وأيضاً للتبشير بين اليهود بلغتهم الأصلية من أجل إرسالهم لفلسطين. وقد أرسل سميث أحد أنصاره (أرسون هايد) في رحلة تبشيرية دينية لأوربا وفلسطين لنشر دعوة المورمون في الأوساط اليهودية الأوربية عام 1841. وقد قوبلت دعوة هايد بالرفض من قبَل حاخام هولندا. وأرسل هايد لسميث رسالة يخبره فيها بضرورة استخدام القوة السياسية والضغوط الحكومية لإعادة الشعب اليهودي إلى أرضه، وأن إنجلترا مُقدَّر لها أن تلعب هذا الدور لتحقيق هذا المشروع العظيم. وأعرب هايد عن تفاؤله لأن هذه الأرض المباركة ستصير خصبة وعامرة عندما يمتلكها أصحابها الحقيقيون.

    رد

  22. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:23:47

    شـــــهود يهــــوه
    Jehovah’s Witnesses
    «شهود يهوه» جماعة دينية مسيحية بروتستانتية اسمها الأصلي هو Watchtower Bible and Tract Society يؤمن أتباعها بعدد من الأفكار المشيحانية الصهيونية. ويعود اسم الجماعة الشائع إلى إيمانها بأن اسـم الإله الحقيقي هو «يهـوه» وأن الاسم الحقيقي للمسيحيين هو «شهود». نشأت الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1872 في مدينة بتسبرج بولاية فيلادلفيا على يد رجل أعمال شاب يدعـى تشـارلز راسل (1852 ـ 1916) كان ينتمي لجماعة الأدفنتست، وهي جماعة بروتستانتية تدور أفكارها حول أطروحة عودة المسيح (فهم الأدفنتست أو المؤمنون بالعودة) وتنصير اليهود باعتبارهم أس الشر وجرثومة الفساد التي نمت في العالم.

    ولقد واكب ظهور حركة شهود يهوه نهاية الحرب الأهلية الأمريكية التي شهدت دمار الجنوب وإخضاعه لسيطرة الشمال. وبذا، وُجدت تربة خصبة لنمو الأفكار المشيحانية عن الخلاص ونهاية العالم في جو الإحباط والدمار الذي تلا الحرب.

    وقد أسس راسل جماعة لدراسة التوراة ونشر عام 1874 على نفقته الخاصة كتيب غرض عودة الرب وكيفيتها الذي يزعم فيه كاتبه أنه كشف للعالم الخطة التي رسمها الرب للبشرية.

    وفي عام 1879، قامت الجماعة بتأسيس مجلة برج صهيون وبشير مجيئ المسيح الشهرية التي ازداد توزيعها بمرور الوقت. وقد انخرط راسل في حسابات معقدة مستمدة من التوراة لمعرفة وقت عودة المخلِّص وبداية العهد الألفي وتخليص العالم من الشر ونهاية التاريـخ وهـي الأفكار التي تمثل حـجر الزاويــة في كل الأنساق الحلولية. وقد حدد راسل عام 1914 لعودة اليهود. وفيما بعد، أعلن أتباعه أنه كان يقصد الإشارة لوعد بلفور الذي صدر عام 1917.

    وصاغ راسل نظرية دينية تقوم على منظومة تمرُّد الشيطان وخــداعه لآدم وحـواء ودفعهــما للخطيـئة ومحاربته للرب. وبعدئذ، سيطر الشيطان أو قوة الشر على العالم فيما أسماه راسل «إمبراطورية الشر» (المصطلح الذي يتواتر في الخطاب السياسي الأمريكي).

    كل هذا يعني في واقع الأمر أن حُكم المسيح الألفي أصبح وشيكاً وأن معركة هرمجدون بين قوى الخير والشر وشيكة وسيُهزَم الشيطان ويُحطم الأشرار إلى الأبد. أما من يرضى عنهم يهوه فنصيبهم هو الخلود. هذا يعني أن هناك من الأحياء الآن الذين لن يموتوا قط وسيحيون هذه الحياة الخالدة في العصر الألفي. وكما قال أحد قادة شهود يهوه “يوجد ملايين من الأحياء الآن لن ينال منهم الموت”. وترى جماعة شهود يهوه أنه يوجد 144 ألف من المؤمنين عميقي الإيمان عبر التاريخ سيولدون كأبناء الإله الروحانيين وسيشاركون في حكم العالم مع المسيح. ومملكة المسيح ليست مفارقة للأرض فالمملكة الألفية ستؤسَّس هنا وهي مملكة كل ما فيها مثالي إذ ستمتلئ الدنيا عدلاً بعد أن امتلأت جوراً، بل إن الطبيعة المادية ذاتها ستتغيَّر، كما هو الحال في الرؤى المشيحانية.

    وعلى عضو جماعة شهود يهوه أن يظل بمنأى عن الدنيا الفاسدة وألا يطيع تلك القوانين والممارسات العلمانية، وأن يتبع تفسير الجماعة للإنجيل، وبناءً عليه يجب عدم استخدام الصور في العبادة وعدم المشاركة في الحوار بين الأديان وألا يسمح عضو الجماعة بنَقْل دم له وألا يُحيِّي العلم القومي لأية دولة ولا يُقسم يمين الولاء لأية أمة من أمم الأرض (وقد أدَّى هذا إلى اضطهـاد أعضاء الجمـاعة وإلى مقتل بعضهـم).

    ويؤمن الشهود بالثالوث المسيحي، ولكن الأب يهوه يشغل مكانة عالية تفوق مكانة الابن. ومع هذا يشغل الابن مكانة خاصة فهو أول مخلوقات الإله، دفع حياته تكفيراً عن خطايا البشر وقد مات على الخازوق (لا الصليب) ورُفع كروح خالدة، وهو موجود في العالم على هيئة الروح. والابن هو المركز الذي يتجمَّع حول الشهود في صلاتهم، فهم يصلون ليهوه من خلال المسيح.

    ورغم أن الشهود يؤمنون بالميلاد بدون دنس إلا أنهم لا يحتفلون بعيد الكريسماس باعتبار أنه من أصول وثنية ولا يعترفون بالصوم الكبير ولا عيد الفصح، والتعميد عن طريق شهود يهوه يتم من خلال إغراق الجسد كله في الماء. وهم لا يُصلّون يوم الأحد إذ يقولون إن إقامة شعائر السبت تنطبق على اليهود وحدهم وأنه تم نَسْخها من خلال المسيح. ومع هذا يقبل الشهود يوم الأحد كيوم راحة وتغيير (كمحاولة للتكيف مع المعايير الاجتماعية السائدة وليس على أساس عقائدي). ولا توجد طبقة كهنوتية عند شهود يهوه ويجتمع أعضاء الجماعة فيما يُسمَّى «صالات المملكة» للدراسة والتعميد، كما يجتمعون في منازل الأعضاء.

    ويُلاحَظ أنه بعد موت راسل عام 1916 حدث تَحوُّل عميق في الحركة ظهرت آثاره عام 1931. فقد تبنَّت الحركة في هذه المرحلة اسمها الجديد (شهود يهوه) وتسنَّم رئاستها محام بروتستانتي معمداني هو جوزيف رذرفورد تَبنَّى آراءً أكثر تطرفاً من المجتمعات العلمانية. إذ أعلن نهاية زمن الأغيار وأن الشيطان قد أصبح الحاكم الحقيقي والفعلي لكل حكومات الأرض وأن عصبة الأمم أصبحت ألعوبة في يد الشيطان.

    وينعكس هذا التطور على موقف الجماعة من اليهود ومن المُستوطَن الصهيوني. ففي المرحلة الأولى كان راسل يذهب، وفقاً لحساباته، إلى أن اليهود سيلعبون دوراً حاسماً في صراع الرب ضد الشيطان حيث اصطفى الرب إسرائيل أو اليهود وأعطاهم حكماً دينياً ليكونوا شعبه المختار. لكن اليهود عصوا الرب، فعاقبهم بالنفي والشتات، وسيستمر هذا النفي مدة من الزمان تساوي سبعة أمثال خطاياهم كما ورد في التوراة. وبعدئذ، يعود اليهود إلى أرض إسرائيل، وتعود صهيون لأهلها، ويسامح الرب شعبه المختار. وقد دعا راسل اليهود إلى العودة لأرض إسرائيل كخطوة أولى نحو إقامة مملكة الرب على الأرض. وقد ازداد نمو حركة راسل بسرعة مع نهاية القرن واتصل بالقيادات الصهيونية وأبدى إعجابه الشديد بهرتزل وسماه «رجل الأقدار». وقد زار راسل فلسطين عدة مرات وتقابل مع قادة الصهاينة الاستيطانيين هناك، وزاد دعايته للهجرة اليهودية إلى فلسطين وأعرب عن اعتقاده أن فلسـطين تستطيع أن تسـتوعب ضعف عدد اليهود في الأرض، ولكنه أعرب في الوقت نفسه عن شكه في إمكانية هجرتهم جميعاً واقترح “هجرة الفقراء المخلصين باستخدام أموال الأغنياء”. ولا يخفي الفكر الاسـتيطاني التوطـيني الذي يقـدمه راسـل ولا تَطابُقه مع الفكر الصهيوني، وخصوصاً الفرع الأمريكي للمنظمة الصهيونية العالمية. وقد قابل جاكوب دي هاس محرر جريدة الجويش أدفوكيت في بوسطن راسل، وأعرب عن إعجابه به وأشار إلى أن آراءه تشبه كثيراً آراء اليهودية الحسيدية، بل سماه «أول محبي اليهود».

    هذا الموقف المتعاطف تراجع مع تسنُّم رذرفوره قيادة الحركة فقد أفزعه أن الصهاينة اتجهوا للتعاون مع المؤسسات العلمانية، ولذا قام بتحذيرهم من خطر الابتعاد عن حظيرة الرب. وقد حدَّد رذرفورد عام 1925 بوصفه عاماً حاسماً في بناء مملكة الرب. وعندما مرّ العام دون حدوث شيء يذكر، تذرَّع الأتباع بواقعة إقامة الجامعة العبرية (فالنسق الحلولي الكموني لا يعدم العثور على الشواهد التي يتم تأويلهـا من خـلال ليّ عنق الواقـع حتى يتفق مع النموذج المطروح).

    وشهد عام 1931 تحولاً كاملاً في حركة شهود يهوه، فقد أعلن رذرفورد أن اليهود باتجاههم المستمر نحو العلمنة وتخليهم عن الحكومة الدينية قد نقضوا، وإلى الأبد، عهدهم مع الرب، وأصبح شهود يهوه هم الشعب المختار الروحي الوحيد. ودعا رذرفورد اليهود إلى نبذ المؤسسات الدولية والانضمام لحركة شهود يهوه. وبعدئذ انقلب من محب لليهود إلى معاد لهم. وعلى كلٍّ لا تقبل الأيديولوجيات التي تدور حول مركب الشعب المختار شعباً مختاراً آخر، إذ لا يمكن أن يوجد أكثر من شعب مختار واحد، ومن هنا جذور الصراع بين شهود يهوه والصهاينة، وهو لا يختلف كثيراً عن معركتهم مع النازيين. وقد سُئل هتلر مرة عن سبب عدائه لليهود، فكانت إجابته واضحة ومباشرة: “لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران. ونحن وحدنا الشعب المختار، فهل هذه إجابة شافية عن السؤال؟”. ولذا عادى النازيون كلاًّ من اليهود وشهود يهوه (باعتبارهم شعوباً مختارة)، بل اتهم النازيون حركة شهود يهوه بأنها ألعوبة يهودية في إطار المؤامرة اليهودية المستمرة من أجل حكم العالم. وبعد إقامة دولة إسرائيل، أصبحت دولة إسرائيل بالنسبـة لأتبـاع شــهود يهوه قلعة أخرى من قلاع الشيطان على الأرض.

    وحركة شهود يهوه حركة تبشيرية قوية لها نشاط ملحوظ في إسرائيل وتحارب الحكومة الإسرائيلية ضدها. وقد وصل عدد أعضاء جماعة شهود يهوه في العالم إلى ما يزيد عن 2 مليون فرد في حوالي مائتي بلد.

    ومما يجدر ذكره أن الجماعة بدأت تُهدئ قليلاً نزعتها المشيحانية فأعلن قادتها أن كل النبوءات السابقة القائلة بأن هرمجدون والحقبة الألفية وشيكة كانت مجرد نبوءات وليست عقائد مستقرة.

    رد

  23. zmzmzm
    أكتوبر 23, 2009 @ 20:24:42

    صهيونية غير اليهود العلمانية
    Gentile Secular Zionism
    «صهيونية غير اليهود» اصطلاح نستخدمه للإشارة لما يُسمَّى «صهيونية الأغيار» ونضيف أحياناً كلمة «علمانية» حتى نميِّزها عن صهيونية غير اليهود ذات الديباجة المسيحية، وإن كنا عادةً لا نفعل ذلك ونكتفي بالحديث عن «صهيونية غير اليهود» من قبيل إطلاق العام والشائع على الخاص. وقد تدثرت الصيغة الصهيونية الأساسية بديباجات مسيحية عندما ظهرت في الغرب في القرن السابع عشر. ومع تزايد معدلات العلمنة، ابتداءً من القرن الثامن عشر، ومع انتشار الفلسفات النفعية والعقلانية، بدأت الديباجة المسيحية في الضمور والتواري وتم تسويغ الصهيونية انطلاقاً من الرؤية المعرفية الإمبريالية وأطروحاتها المادية. ومع هذا، فعادةً ما كانت الديباجات العلمانية والدينية تختلط، ولذا كانت تطرح ضرورة توطين اليهود في فلسطين لتحقيق الخلاص ولحماية الطريق إلى الهند.

    ويُلاحَظ أنه في الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، بدأت صهينة الوجدان الغربي فبلور الفكر الألماني الرومانسي فكرة الشعب العضوي (الفولك)، وأصبح هناك «شعب عضوي ألماني» و «شعب عضوي إنجليزي» و «شعب عضوي يهودي». ويرد اليهود في كتابات هردر وكانط وفخته باعتبارهم شعباً عضوياً. كما تتواتر الفكرة نفسها في كتابات المؤلفين الرومانسيين الغربيين، وخصوصاً في بريطانيا (مثل بايرون وولتر سكوت مثلاً). ولكن الشعب العضوي اليهودي لا ينتمي إلى أوربا ولا للحضارة الغربية، فهو شعب عضوي منبوذ لابد من نَقْله. وقد تبلورت في أوائل هذه المرحلة فكرة نَفْع اليهود وإمكانية إصلاحهم وتوظيفهم، أي أن الصيغة الصهيونية الأساسية زادت تبلوراً ووضوحاً. وقد عبَّر فلاسفة حركة الاستنارة، مثل جون لوك وإسحق نيوتن، عن نزعة صهيونية أساسية في كتاباتهم.

    وفي كتاب له صدر عام 1749 صنَّف الفيلسوف ديفيد هارتلي اليهود ضمن الهيئات السياسية باعتبارهم “كياناً سياسياً موحداً ذا مصير قومي مشترك رغم تَشتتُّهم الحالي”. وقد تبنَّى الحجج الدينية النبوئية الشائعة وأضاف لها تفسيرات دنيوية. كما أن جوزيف بريستلي صوَّر فلسطين أرضاً “غير مأهولة بالسكان، أهملها مغتصبوها الأتراك ولكنها مشتاقة ومستعدة لاستقبال اليهود العائدين”. ولم يكن الفكر الرومانسي أقل حماسة من الفكر الاستناري، بل يمكن القول بأن الفكر الرومانسي أعطى دفعة جديدة للصهيونية فتزايد الحديث عن العبقرية اليهودية والعرْق اليهودي. وقد نادى روسو (الذي ينحدر من أسرة بروتستانتية) بإعادة اليهود لدولتهم الحرة. وكان الفكر الألماني الرومانسي، الذي وُلدت في أحضانه فكرة الشعب العضوي، يتسم بنزعة صهيونية (معادية لليهود) كما يتضح في كتابات هردر وكانط وفخته. كما توجد أصداء صهيونية في أشعار بايرون وروايات وولترسكوت.

    ويُلاحَظ تزايد الاهتمام باللغة العبرية، كما بدأ الفنانون الغربيون يتناولون الموضوعات اليهودية والعبرية بكثير من الألفة لم تكن معروفة من قبل. وقد نشر دزرائيلي روايتيه ديفيد الراوي (1833) وتانكرد (1847)، وهما روايتان لهما نزعة صهيونية واضحة. وقد ظهرت رواية جورج إليوت دانيل ديروندا (1876) أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية وهي التي تُعدُّ أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية والتي وُصفت بأنها مقدمة أدبية لوعد بلفور. ونُشر في الفترة بين 1840 و1880 ما يزيد على 1600 كتاب من كُتب أصحاب الرحلات إلى فلسطين، وقد ساهمت هذه الكتب في تدعيم صورة فلسطين كأرض مُهَملة، وصورت العرب (المسلمين أو البدو) كمسئولين عن هذا الخراب. وأُسِّس صندوق استكشاف فلسطين عام 1865 وكان مركزاً لمؤيدي الاستيطان الصهيوني. ومن أهم العلماء الأثريين فيه سير تشارلز وارن الذي قام بالعديد من الاكتشافات الأثرية وتنبأ بقيام حكم اليهود في فلسطين. كما قام كلود كوندر (1848 ـ 1910) بكتابة دراساته الجغرافية التي كانت تنشرها الصحافة الصادرة بالعبرية.

    وقد ظلت النزعة الصهيونية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر تأخذ طابعاً فكرياً تأملياً أو عاطفياً لأن أوربا كانت في حالة انتقال. كما أن المشاريع الاستعمارية المختلفة كانت متوقفة أو لا تزال في حالة التفاف حول الدولة العثمانية التي كانت قد بدأت في التآكل من الداخل، وإن كانت لا تزال قوية قادرة على حماية رعاياها.

    ويمكن القول بأن ظهور محمد علي وقَلْبه موازين القوى وتهديده للمشروع الاستعماري الغربي ووضعه حداً لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المؤاتية لاقتسام تركة رجل أوربا المريض، أي الدولة العثمانية، يُشكِّل نقطة تحوُّل في تاريخ فلسطين وتاريخ الصيغة الصهيونية الأساسية، إذ تساقطت الأردية الدينية وظهر الواقع المادي النفعي. ويشرح الزعيم الصهيوني حاييم سوكولوف الموقف فيقول إن أوربا عام 1840 اضطرت محمد علي إلى التوقيع على «معاهدة لندن لتهدئة الشرق»، وبعد ذلك أصبح المنطق السائد في أوربا آنذاك على النحو التالي:

    “إذا اتفقت الدول العظمى الخمس على تسوية المسألة الشرقية على أساس استقلال سوريا… واسترجاع اليهود لها… حاملين معهم عُدة الحضارة وأجهزتها، بحيث يكونون نواة لخلق مؤسسات أوربية… تحت رعاية القوى الأوربية الخمس… فإن ذلك سيساهم في أن تسترجع الدولة العثمانية قوتها… ومما لا شك فيه أن حالة سوريا محفوفة بعديد من المصاعب نظراً لانقسام سكانها إلى قبائل منفصلة. ولكن هذا لا يُثبت سوى ضرورة إدخال «مادة جديدة». حتى يتم صَهْر الطبقات كلها في جماعة مترابطة متوازنة. وإذا ما سلمنا بضرورة إدخال مادة جديدة في نسيج سوريا الاجتماعي، فإننا سنسلِّم بالتالي بأن هجرة اليهود إلى سوريا ستزودنا بأكثر المواد قبولاً. وسيتبع ذلك إقامة مؤسسات أوربية. وستجد إنجلترا حليفاً جديداً سيثبت أن الصداقة معه في نهاية الأمر ذات نفع لها في التعامل مع المسألة الشرقية”.

    ويُلاحَظ أن البُعد الجغراسي (الجيوبوليتيكي) الكامن للفكر الصهيوني بين غير اليهود أخذ يزداد حدة وتحدداً، بل أصبح البُعْد الرئيسي. ولم يعد الحل الصهيوني مجرد فكرة فلسفية أو تطلُّع عام. “فالتطورات السياسية [على حد قول سوكولوف] أدَّت إلى ظهور خلفية جديدة للصهيونية. إن قضية استرجاع إسرائيل التي كانت قضية أثيرة لدى العاطفيين وكُتَّاب المقالات والأدباء… وكل مؤمن بالإنجيل وكل صديق للحرية، أصبحت قضية حقيقية مطروحة [على المستوى السياسي]”. وكما قالت التايمز عام 1840، فإن المسألة أصبحت مطروحة بشكل جدي، بمعنى أن الصهيونية لم تَعُد فكرة هامشية تُتداوَل في الأوساط التبشيرية الإنجيلية وحسب، فعام 1840 هو عام ولادة المسألة الشرقية وهو أيضا عام ولادة الحل الصهيوني للمسألة اليهودية! وقد طُرحت مشاريع صهيونية عديدة في كل مكان في أوربا (في روسيا وبولندا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا)، فمع بدايات المشروع الاستعماري الألماني قام مولتكه (الضابط في الحرس الملكي البروسي) عام 1939 بنشر كتاب ألمانيا وفلسطين يقترح فيه إنشاء مملكة صليبية هناك لتشجيع اليهود والمسيحيين. وقد وضع بندتو موسولينو، الإيطالي الجنسية، خطة في عام 1851 لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وشهد منتصف القرن التاسع عشر بعثاً مؤقتاً للمشروع الاستعماري الفرنسي المستقل إبّان حكم نابليون الثالث. فقد حصلت فرنسا على امتياز شق قناة السويس عام 1854 ثم جردت حملة عسكرية فرنسية عام 1860 ـ 1861 إلى جبل لبنان عقب الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة، وهي الحرب التي كانت في واقع الأمر حرباً على النفوذ بين الإنجليز والفرنسيين. ويُقال إن الهدف من الحملة كان الضغط على السلطان العثماني للموافقة على امتياز قناة السويس. وفي هذا الإطار، ظهرت عدة كتابات فرنسية في الموضوع، أهمها دعوة لاهارن (سكرتير نابليون الثالث) لليهود بالعودة إلى فلسطين حتى يكونوا بمنزلة الوسطاء الذين سيفتحون الشرق للغرب لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وكان هنري دوتان (1820 ـ 1910)، مؤسس الصليب الأحمر الدولي، مهتماً بالمشروع الصهيوني، حيث حاول منذ عام 1863 حتى عام 1876 إثارة اهتمام الجماعات اليهودية باقتراحاته دون جدوى. وقد أسَّس جمعية الاستعمار الفلسطينية في لندن، واتصل بنابليون الثالث والحكومة العثمانية لعرض فكرته، كما حضر المؤتمرات الدولية للدفاع عنها واشترك في بعض المؤتمرات الصهيونية.

    رد

أضف تعليق