توالت فضائح الانتهاكات الجنسية التي ارتكبها كهنة وقساوسة تابعون للكنيسة الكاثوليكية “الفاتيكان”؛ لتطال البابا بيندكت السادس عشر نفسه. وتتهمه بالتستر على جرائم كان يعرفها في وقت سابق، ولم يتخذ الإجراءات اللازمة ضد المتورطين فيها، برغم أن منصبه في الكنيسة وقتها كان يوجب عليه ذلك.
ملف الفضائح الجنسية لكهنة الكنيسة الكاثوليكية الذي فتحته مؤخرا صحيفة “نيويورك تايمز”، كشف عن عديد من التجاوزات، وحوادث الانتهاكات الجنسية التي تمت بحق أطفال على يد الكهنة، انطلاقا من قضية الأب مورفي الذي اتُّهم بالتعدي جنسيا على 200 طفل من الصم، أثناء تدريسه لهم في فترة سابقة.
والجديد الذي يتكشف في هذا الملف، هو علاقة البابا بندكت السادس عشر بتلك الانتهاكات، وتغاضيه عن اتخاذ الإجراءات الواجبة لمعاقبة الكهنة- عندما كان يُعرف باسم “الكاردينال يوزف راتسينغر”- سواء بالتحقيق معهم، أو على أقل تقدير منعهم من التعامل مع الأطفال. وكان يشغل آنذاك منصبا مرموقا في الفاتيكان، إضافة إلى منصبه السابق كرئيس لأساقفة برلين.
في ذلك الوقت كان قد اطّلع على الانتهاكات الجنسية التي قام بها أحد الكهنة في إحدى المدن الألمانية، وهو الكاهن بيتر هولرمان، من خلال مذكرة أرسلت إلى الكاردينال تضمنت الاتهامات الموجهة إلى الكاهن بالاعتداء الجنسي على الأطفال.
وكان من المفترض أن يتم إخضاع الكاهن للعلاج. إلا أن هذا لم يحدث واستأنف الكاهن نشاطه الرعوي في مدينة ميونخ. أي أنه تم الاكتفاء بنقله فقط، وأدين مرة أخرى بالاعتداء على أطفال آخرين في المكان الذي نُقل إليه!
ملف الفضائح الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية، يمتد لسنوات طويلة ماضية. وتعود أسباب تلك الظاهرة، إلى نظام الرهبنة القاسي الذي تتبعه الكنيسة، والذي يحرم من يدخل في سلك الكهنوت من الزواج. ما يجعل الانحرافات الجنسية للكهنة تتزايد.
وهو ما أصبح أقرب إلى المشاع، وتناولته كثير من الأدبيات الغربية، وكذلك السينما في أكثر من عمل. من بينها الرواية الأشهر للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو “اسم الوردة” التي تحولت فيلما بنفس العنوان، قام ببطولته شين كونري، وتعرضت لفكرة شذوذ الرهبان، وإن بشكل عرَضي، إلا أنها تؤكد على شيوع تلك الظاهرة.
الملاحظ أن الانتهاكات الجنسية في الكنيسة، غالبا ما تتم في إطار الشذوذ. وهو ما تؤكده الحوادث التي تم الكشف عنها مؤخرا، والتي تعتبر جرائم مزدوجة لكونها انتهاكات جنسية ضد الأطفال من جانب، ولكون الأطفال الذين تعرضوا لهذه الانتهاكات معظمهم من الصم “أي المعاقين”، بحسب ما نشر حول تورط البابا بيندكت السادس عشر، حين كان كاردينالا، في التستر على جرائم كاهن أمريكي اتهم باستغلال 200 طفل من الصم، جنسيا.. وهو الأب لورنس مورفي. وأن البابا الحالي كان على علم بتلك الجرائم قبل توليه البابوية، إلا أنه تغاضى عنها، ولم يُخضِع الكاهن المتهم للتحقيق، أو لأي إجراء عقابي.
المفاجأة الجديدة التي تطرحها حملة فتح ملفات الانتهاكات الجنسية في الكنيسة، تكمن في الإشارة إلى تورط بابا الفاتيكان نفسه في التستر على بعض هذه الجرائم رغم علمه بها، ما يجعل مصير البابا وكرسيه مهددا، نتيجة كشف تلك الانحرافات.
وتظهر خطورة المسألة من التصريحات المتتالية لمسؤولي الفاتيكان في محاولة منهم لتبرئة ساحة البابا. فأي اتهامات يمكن استيعابها، ولكن عندما تمس الاتهامات، خصوصا الجنسية منها، البابا نفسه؛ فالأمر يصبح مشينا للكنيسة برمتها، ويخرج عن كونه مجرد أخطاء أو جرائم فردية يقوم بها الكهنة والرهبان، ليتحول إلى تواطؤ من السلطات العليا في الفاتيكان مع تلك الجرائم.
الأمر الذي يهدد مكانة الكنيسة الكاثوليكية التي ترعى ما يزيد على مليار شخص حول العالم، وترتبط بعلاقات موسعة مع حوالي 200 دولة، خصوصا أن الكنيسة الكاثوليكية هي الوحيدة التي تمثل دولة مستقلة بذاتها “دولة الفاتيكان”.
فداحة الجرائم التي تم الكشف عنها، جعلت رعايا الفاتيكان يشعرون بالحرج، ويحاولون في كافة الدول تبرئة ساحة البابا والكنيسة، من تلك الجرائم لحصرها في حيز أشخاص مرتكبيها. بحيث لا تنسحب على عموم النظام الكنسي أو الإكليروس.
وهو ما اتضح في الرسالة التي وجهها قساوسة فرنسا إلى الفاتيكان معلنين عن “شعورهم بالعار والأسف من الأعمال الشائنة المتمثلة في الانتهاكات الجنسية للأطفال”. وفي الوقت نفسه أعلنوا تضامنهم مع البابا في تلك الأزمة، وعن حزنهم من فتح هذا الملف لما يتضمنه من إهانة شديدة للكنيسة الكاثوليكية، يعطيها الإعلام أكثر من حجمها، لتتحول إلى صفات يمكن أن تمس جميع الكهنة وأعضاء الإكليروس.
وهو ما يجعل تلك الجرائم تهدد بالفعل العرش البابوي، وتضع سلطته موضع اتهام وشك. خصوصا بعد اعتراف بعض الكهنة بأنهم تغاضوا عن تلك الجرائم لأسباب ومبررات واهية، لا تتفق وحجم الجريمة.
محمد الكفراوي